Thursday, February 26, 2009

بلا حدود - عبد المجيد الخولي - حوار صادم

حوار مع فلاح مصري
الحوار صادم لكشفه حقيقة اوضاع الفلاحين في مصر

Tuesday, February 24, 2009

أوباما فرصة، هل سنضيعها؟!

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

24 فبراير 2009 04:13:01 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 0

أوباما فرصة، هل سنضيعها؟!

هذا المقال يناقش نبؤة، أتمنى أن تكون هادمة لذاتها، كمن يتنبأ بالفشل فينتبه الغافل ويجتهد حتى لا يفوت الفرصة المتاحة. إذن هناك شقان الأول عن واشنطن وما فيها والآخر عن العرب وما ينقصهم.

أما بشأن واشنطن في ظل أوباما فهناك ملمحان جديدان يستحقان الرصد. الأول أنه رئيس يحاول أن يعيد للبيت الأبيض العمق الثقافي intellectualism في العلاقات الدولية بعد غياب طويل يقدره بعض المؤرخين بقرابة المائة عام منذ عهد ودرو ويلسون، وبينهما ومضات سريعة على نمط جون كينيدي وجيمي كارتر. فخلا هؤلاء الأربعة، تعاقب على حكم الولايات المتحدة ساسة محترفون أو عسكريين سابقون كانت شعاراتهم جزءا من أدواتهم لإدارة الرأي العام أكثر من كونها قيودا تهذب براجماتيتهم. وقد بدأ أوباما في الساعات الأولى لحكمه بالتأكيد قولا وفعلا على ضحد أي تناقض بين تحقيق الأمن الأمريكي واحترام مباديء القانون الدولي.

ثانيا هو يأتي في أعقاب واحد من أقل الرؤساء الأمريكيين حنكة وحكمة، وهو ما يدركه أوباما من سوء تقدير بوش للتحديات التي تواجه الولايات المتحدة وسوء صياغة ردود الفعل تجاهها، وهو ما يجعله يرى في نفسه أنه أقرب إلى إبراهام لينكولن الذي قاد حرب توحيد أمريكا بعد إعلان ولايات الجنوب الاستقلال في أعقاب الشلل السياسي الذي عاناه جيمس بوكانون والذي رفض شن الحرب على ولايات الجنوب باعتبار أن إعلانها الاستقلال غير دستوري كما أن شن الحرب عليه غير دستوري، فأخطأ التشخيص وأخطأ العلاج.

والأمر كذلك في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، فهو يرى أن الحرب على الإرهاب أفضت إلى نتائج متناقضة مع السياسات المعلنة وهو ما جعله يلزم نفسه، عكس ما توقع كثيرون، بسرعة العودة إلى أصل المعضلة وهي الصراع العربي الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع الإنسحاب "المسؤول" من العراق، وإعادة توجيه الاهتمام إلى أفغانستان والتفاوض مع إيران لأنها كلها قضايا مترابطة تحتاج إلى إعادة هيكلة المنطقة من خلال "الدبلوماسية الذكية" وليس من خلال "الفوضى الخلاقة."

إذن هي لحظة فارقة ومهمة في تاريخ الولايات المتحدة ولكن معطيات الواقع العربي تشير إلى أننا سنضيع هذه الفرصة. ومن أسف، فإن مقولة أبا إيبان، مهندس الدبلوماسية الإسرائيلية ووزير خارجيتها، عن أن الفلسطينين "لا يضيعون فرصة في تضييع ما يتاح لهم من فرص" تصف آفة تصدق على الفلسطينين بحكم أنهم جزء من كل.

فهاهي الفرصة، وهكذا سنجتهد في تفويتها.

أولا على المستوى الداخلي: سيستمر العرب في استقطابهم الداخلي بين أنظمة حكم قمعية تسيطر على القصر والجيش ومعارضة "إسلامية" تعبء الجامع والشارع، وتظل الأحزاب اليسارية والليبرالية هشة ومنقسمة تقوم بدور المعارضة شكلا المتعارضة مضمونا. وينعكس كل ذلك في قدرة العرب على إجبار الآخرين على تطوير استجابات أكثر اتساقا مع مصالحهم باعتبارهم يجسدون دونية الدول الإقطاعية ذات الحق الإلهي للرؤساء والأمراء في الحكم المنفرد في مواجهة إسرائيل التي تسوق نفسها بأنها الديمقراطية الوحيدة المستقرة في الشرق الأوسط والتي يتبدل على حكمها أحزاب وفقا لإرادة ناخب حر، كامل المواطنة.

ثانيا على مستوى الدول ذات الصراعات الداخلية: سيظل بأس إخواننا الفلسطينيين بينهم شديدا، متفرقين بين 13 فصيل، لكل وجهة هو موليها. فبين صاروخ هنا وعملية انتحارية هناك، بين دعوة للتفاوض هنا، وتوقيع اتفاقات تفاقم الهوة هناك، يجدون قضيتهم قد ضاعت لأنه ليس من المنطقي أن يتعاطف العالم مع قضية لم ينجح أصحابها في رأب صدع خلافاتهم بشأنها. وستظل هشاشة بنية الدولة العراقية التي تعكس الانقسامات المجتمعية لتجعل من العراق لبنان آخر، يتبنى سياسة الحذر كل الحذر حتى لا تؤدي الاستقطابات الإقليمية إلى انفجار داخلي، والسودان والصومال ليسا عنا ببعيد.

ثالثا على المستوى الإقليمي: ستظل سياسات المحاور العربية مستقرة بين مغرب عربي يبدو منعزلا بخلافاته الثنائية وارتباطاته الأوروبية عن قضايا المشرق، وسيظل الخليج العربي في بحثه عن الاستقرار المستورد من خلال التحالف مع الولايات المتحدة بالأساس خوفا من الطموحات الإيرانية الضاغطة والتي ستظل سياسة مستقرة بغض النظر عن نتائج الانتخابات القادمة في إيران، فالمعلن إيرانيا يرتبط بعلي خامنئي أكثر من ارتباطه بأحمدي نجاد.

وسيظل المحور المصري السعودي قائما بدوره في رفع شعارات التسوية مهما كانت توجهات إسرائيل العدوانية تجاه الجميع ملقيا اللوم دائما على من يستثير إسرائيل. وسيظل المحور السوري الإيراني رافضا للاختراق الأمريكي – الإسرائيلي للمنطقة بمد يد العون لقوى المقاومة والممانعة لتدمير جهود المحور الآخر. وستظل دول الهامش العربي، وعلى رأسها قطر في حالة نشاط دبلوماسي بسبب انشغال دول المركز بصراعاتها البينية، والمحصلة المزيد من عمق الخلافات؛ فلا يحسن العرب التسوية كما لم يتقنوا الحرب والمقاومة.

رابعا على المستوى الدولي: ستنعكس انقساماتنا الداخلية والعربية على الرؤية الاستراتيجية لدول العالم الأخرى لنا. فعند القوى الكبرى سيظل العرب ساحة لثلاثة قوى: الأولى تقوم بدور محطات بنزين على وشك النفاذ بما يفضي لأهمية استراتيجية متناقصة، والثانية ساحة للصراع الأصولي العلماني بما يعنيه من تراجع آمال التحول الديمقراطي، و الثالثة مجتمعات هشة بسبب انقساماتها القبلية والعرقية تسيطر عليها نخب قمعية كبديل وحيد عن الانفجار الذاتي.

أو مزيج من الثلاثة. وعليه فما أشبه الليلة بالبارحة، فستظل القوى الكبرى ملتزمة بأمن إسرائيل وتفوقها وحقها في الدفاع الشرعي عن نفسها في مواجهة استقطابات عربية وطموحات إيرانية، إن تم تسويتها فسيكون على حساب العرب. وغالبا سيرسب القادة في امتحان أوباما الذي سجله في خطاب تسلمه الحكم: «الشعوب ستحكم عليكم بما تبنون لا بما تدمّرون». وعليه فلن تكون المشكلة في واشنطن أو عند أوباما وإنما في ديارنا وبأيدينا. والله أسأل أن يكون كل ما سبق محض خطأ كبير في التحليل.

هوامش على حوار سقراط - زويل: هل أجمل ما في مصر ماضيها؟

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

24 فبراير 2009 04:11:05 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 1

هوامش على حوار سقراط - زويل: هل أجمل ما في مصر ماضيها؟

خرج أحدنا من مصر، فأصبح بالأمل والعلم والعمل أحمد زويل، وحين زارنا كان كمن خرج من كهف سقراط ثم عاد إليه. وكهف سقراط يجسد مثالا ذكره أفلاطون عن أستاذه لأهل أثينا ليوضح لهم المسئولية الأخلاقية لأهل العلم والفلسفة حين يتعلمون ويفقهون بأن يحاولوا مساعدة ذويهم.

فصور سقراط نفسه على أنه كمن عاش مع أهل أثينا في كهف لسنوات طوال يرون جميعا على جدران الكهف خيالات يحسبونها مخلوقات حقيقية يخشونها لأنهم لا يعرفون حقيقتها. وحين خرج سقراط من الكهف تبين له أن ما كان يراه على جدران الكهف ليس إلا انعكاسات لمخلوقات موجودة في الخارج وأن حياة العلم والمعرفة خارج الكهف وإن كانت أكثر إرهاقا لكنها الحياة الحقيقية التي يجدر بالإنسان أن يطمح للعيش فيها. وهنا يكون السؤال هل يعود سقراط إلى أهله لينبههم أم يضن عليهم بما علم حتى لا يفسد عليهم "نعيم جهلهم"؟ عاد سقراط، ولكنهم قتلوه بتهمة الهرطقة، أي تسفيه السائد من معتقداتهم.

التقيت مع الدكتور زويل مرتين وشاهدت له عدة حوارات مسجلة وكلما استمعت إليه أسأل نفسي: هل أجمل ما في مصر ماضيها؟ هل مصر كأثينا، حضارة بلا تحضر؟ أثينا كانت في القرن الخامس قبل الميلاد أرضا خصبة لكبار الأسماء من الفلاسفة والمناطقة وعلماء الحساب والهندسة والفلك (سقراط، أفلاطون، أرسطو، إقليديس، فيثاغورث وغيرهم)، كانوا أشجارا راسخة في أرض عفية. ولكن أرض أثينا بارت ولم تخرج لنا بعد تاريخها هذا أي إسم كبير في أي من مجالات الحياة. هل أجمل ما فيها ماضيها؟

هل بارت الأرض المصرية ففقدت قدرتها على الانتاج والإثمار؟ فتخرج النبتة هنا، ولكن لا بد لها من الرحيل إلى أرض الغير حتى تثمر.

أخطر ما قاله العالم زويل عندي هو إشارته للباحثين المصريين الذين يعملان معه في "كالتاك" وترجيحه أنهما لن يعودا إلى مصر. ومن خبرتي المتواضعة في الجامعات الأمريكية، أشاركه الرأي تماما. إن مصر تعيش واحدة من عصور الاضمحلال لا شك، سيضيع فيها أهل العلم الجادين، لأن العلم ليس من أولويات المصريين، حكومة وشعبا.

لقد انصرفنا عنه انصراف من يسجل الموقف ولا يبحث عن حلول عملية للمشاكل. فتعلن الحكومة التزامها بمجانية التعليم، ولكننا نعلم أنه تعليم بلا علم لأنه "خال الدسم" أي خال من القدرة على النقد والابتكار والفضول والتفكير في غير المفكر فيه. وعليه فلا بد من مجموعة علمية على المستوى الوزاري تكون في أهمية ومكانة المجموعة الاقتصادية المعنية بالاستثمار والانتاج ومكافحة التضخم والبطالة والفقر. نحن بحاجة لمجموعة وزارية علمية تعني بالاستثمار البشري، والانتاج الذهني ومكافحة تضخم الفصول والبطالة الفكرية وفقر الخيال.

القضية ليست في "ما" الذي نصدره ونستورده فقط ولكن كذلك في "من" الذين نصدرهم ونستوردهم. فمصر تصدر للخارج، وعادة بلا عودة، كل بناة النهضة من علماء ومهندسين ومدرسين وخبراء وعمال، وتستورد في المقابل أهل الدعة والسكون من لاعبي كرة القدم والمدربين الأجانب، وراقصات أوروبا الشرقية، والمغنيين العرب. فهؤلاء تشكل مصر بالنسبة لهم قبلة يجدون فيها المأوى الملائم لمواهبهم وقدراتهم فهي هوليود الشرق ومدينة ملاهي ضخمة. أما أهل العلم وبناة النهضة، فمصر بيئة طاردة لهم.

إن المهمة الأولى لمن يتولى حكم مصر ليست فقط إطعام 80 مليون مصري كل يوم كجزء من التزام الحاكم بالحفاظ على الحقوق الحيوانية للإنسان المصري وكأن المطلوب منه أن يتجنب مصير المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها؛ وعليه فالحاكم لا يريد أن يحبس الشعب المصري عن حقه في الطعام وبالتالي هو يطعمه، إن استطاع، أو يتركه يأكل من خشاش الأرض حتى لو بالتسول أو الرشوة.

إذن مأزق سقراط – زويل، بل مأزق مصر، له أسبابه التي أعتقد أنها في رقبة القائمين على شئون الحكم. وأرفض تماما منطق أن ماضي مصر أعظم من مستقبلها حتما، وإنما هو اختيار كالكثير من قراراتنا الخاطئة في آخر 50 سنة من تاريخنا.

إذن هل من أمل؟ الأمل قائم ولكنه مشروط بنوعية القيادة التي ستحكم مصر في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك. وتدليلا على كلامي، فسأسوق ثلاثة مشاهد ماليزية. المشهد الأول في عام 1969 حين كتب الطبيب الشاب مهاتير محمد كتابه "مأزق الملايو" والذي وجه فيه انتقادات شديدة لمسلمي ماليزيا بسبب تقاعسهم عن العمل وارتيابهم من أي ابتكار وسيطرة روح الخرافة والتفكير اللاعلمي عليهم وخوفهم المحموم من السلطة ورفضهم خلع لباس التخلف والجهل.

كان النقد قاسيا لدرجة أن طرد صاحبه من الحزب الحاكم. المشهد الثاني في عام 1981، والتاريخ لا يخلو من مفارقة تستحق المقارنة، حين تولى الرجل حكم ماليزيا فشرع في استقدام أفضل العقول وأمهرها وأحسن النماذج وأكفأها كي تتولى المناصب العليا في الدولة مع متابعة أسبوعية لأداء الوزارات المختلفة، فهو رئيس الوزراء والقائد الأعلى لكتيبة التنمية الماليزية، وقدم نموذجا ندرّسه في إدارة التنمية لحسن التخطيط وتعبئة الموارد بل و نجاحه في أن يبعث كوامن الحياة ودوافع العمل في الأمة بأسرها وفي علمائها النابغين لخدمتها.

وهو ما أصطلح عليه في أدبيات التنمية بخلق "كتلة تنموية" (developmental bloc) من أهل الخبرة والعلم وممثلي العمال وأصحاب الأعمال. ومما يروى أن وزارة التعليم الماليزية أرسلت للطلاب الماليزيين في الخارج في مطلع الثمانينيات على ألا يعودوا إلى ماليزيا إن توافرت لهم فرصة لاستكمال الدراسة والعمل بالخارج حتى يكتسبوا خبرة لأنهم لو عادوا قبل أن تبدأ عجلة التنمية الحقيقية فلن تتحقق الاستفادة الكاملة منهم. قارن ما سبق بنصيحة أحد أساتذتي الأفاضل لي عن العودة لمصر: "لو رجعت الآن هتزود التربة ميتين، خليك في الخارج أفضل."

المشهد الثالث، عام 2003 بعد أن أتم الرجل مهمته، ترك الحكم لمن يأتي بعده. لكنه ترك ماليزيا بعد أن تحولت من دولة زراعية تعتمد على انتاج وتصدير المواد الاولية إلى دولة صناعية متقدمة تبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من اجمالي صادراتها، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في شوارعها، وعليه انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% من اجمالي السكان في عام 1970 إلى 5% فقط في عام 2002.

إذن مقومات النهضة المصرية موجودة لكنها مبددة كمكونات الماكينة التي تحتاج للقائد الماهر الذي يعرف كيف يقرأ "كتالوجها" ويضع الأمور في نصابها، حيئذ لن يكون أجمل ما فيها ماضيها.

المصريون حائرون: ماذا يفعلون؟

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

24 فبراير 2009 04:09:28 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 1

المصريون حائرون: ماذا يفعلون؟

تشير تعليقات قطاع واسع من المصريين بشأن أحداث غزة وسياسة مصر تجاهها إلى أزمة ثقة شديدة حيال المواقف الرسمية لحكومتهم، لكنني أظن أن هذه الأزمة ليست وليدة أحداث غزة فقط، وإنما هي تعبيير عن شرخ عميق في الشخصية المصرية بحكم تعرضها لصدمات هائلة في آخر مائة عام وأصبحت نتائجها جزءا أصيلا من الثقافة السياسية للمصريين. ويمكن رصد هذه الصدمات على مستويات أربعة.

أولا وعلى مستوى الهوية، وجد المصريون أنفسهم يتحولون بقرارات سياسية من "ولاية إسلامية" تتبع الخلافة العثمانية إلى زعامة الأمة العربية تقاتل باسمها ضد الصهيونية والامبريالية في أعقاب ثورة يوليو. وتأتي هزيمة 1967 لتفقد الثورة الكثير من شرعيتها، ثم يرفع انتصار 1973 الروح المعنوية للمصريين لكنهم يجدون أنفسهم، استفاء لمتطلبات السلام مع إسرائيل، مطالبين بأن يضحوا بكل ما عاشوا من أجله في السنوات الثلاثين السابقة من أجل استعادة الأرض؛ فبدلا من التفكير والتصرف كمسلمين أو كعرب كان عليهم أن يعيدوا "برمجة" أولوياتهم باعتبارهم "مصريين أولا" وأحيانا "مصريين وكفى". ومع كل صدمة من هذه الصدمات، يفقد المصري جزءا من قدرته على تحديد هويته ومن ثم قضاياه الأولى بالتقديم.

وعلى مستوى بنية النظام السياسي الداخلي، ثانيا، فقد شهدت مصر تحولات هائلة من الملكية مع التعددية الحزبية على عيوبها ومجتمع مدني نشط نسبيا إلى نظام ثوري يلغي الأحزاب ويؤمم الصحف ويجمد المجتمع المدني ويطلق لفظة "البائد" على كل ما كان سابقا عليه، وقبل أن تستقر الأوضاع يرحل الرئيس عبد الناصر ويأتي الرئيس السادات ليسير على خط الرئيس عبد الناصر "بأستيكة" كما قيل.

لنجد أنفسنا نعود إلى حالة من التعددية الحزبية الشكلية والتي استمرت حتى عهد الرئيس مبارك الذي تبنى مزيدا من الانفتاح الإعلامي مع ضبابية في حدود الحرية وقيودها، والسماح بمجتمع مدني أكثر حرية ولكن أقل فعالية مما كان عليه قبل الثورة.

وفي علاقة النظام السياسي بأقدم جماعة معارضة في تاريخنا، أقصد جماعة الإخوان، تتوالى الصدمات بين النشأة والتفاوض ثم الإلغاء والحل في مرحلة ما قبل الثورة، ثم دعم الثورة والتحالف معها، ثم القبض على رموزها وإعدامهم في عهد الرئيس عبد الناصر، ثم إخراجهم من السجن والسماح لهم بالازدهار في بدايات عهد الرئيس السادات ثم الاعتقال في آخر عهده، ثم توسيع هامش الحركة لهم في عهد الرئيس مبارك مع تضييق هذا الهامش بعد فوزهم في الانتخابات التي سمح لهم النظام بالتنافس فيها.

وكذا عند الحديث عن المشاركة السياسية، يدعو رئيس الدولة المواطنين للتصويت في الانتخابات، وحين يستجيب بعضهم يجدون أنفسهم أمام العصا الغليظة للأمن المركزي، فينكأ جرحَ الثقة القديم، جرحٌ جديد.

ثالثا على مستوى بنية النظام الاقتصادي: في أقل من عقدين تحولت مصر من نظام السوق ببورصة نشطة وعملة قوية ومنطق التنافس والتسويق وتفاوت حاد في الدخول والثروات في ظل اقتصاد منفتح على العالم الخارجي في العهد الملكي إلى دولة إشتراكية تعيش على إغلاق الحدود الاقتصادية وتبني منطق الاعتماد على الذات وتأميم الشركات والبنوك الأجنبية ثم الوطنية، وهكذا، فمن قواعد السوق إلى التدخلات الإدارية وجد المصريون أنفسهم مطالبين بالتعايش مع واقع جديد تعاملوا معه بمنطق "لعله خير."

وبعد سنوات ليست بالطويلة، ونتيجة عجز موارد الدولة عن الوفاء بما عليها من التزامات داخلية وخارجية عسكرية ومدنية، قرر الرئيس السادات أن يعود بعجلة الزمن إلى الوراء فتتبنى مصر الانفتاح الاستهلاكي ليزيد من عجز الموازنة ويحدث خللا رهيبا بالبنية الطبقية في المجتمع في وقت لم يكن المصريون قد استوعبوا بعد ضربات التأميم في مطلع الستينيات، ثم تأتي روشتة البنك الدولي وصندوق النقد مع بدايات حكم الرئيس مبارك الذي أعلن انحيازه لمحدودي الدخل مع يقينه بأنهم هم الذين يدفعون ثمن كل السياسات التي تبنتها الدولة منذ حكم مصر، فتشرع الدولة في بيع الكثير مما قامت بتأميمه من قبل.

والأخطر أن هذه المعاناة الاقتصادية أدت إلى نتائج ثقافية وقيمية شديدة جعلت ما كان حراما وعيبا ومرفوضا (لأنه يدخل في باب الفساد والرشوة) ليس حراما أو عيبا أو مرفوضا، فيزيد الشرخ في الشخصية المصرية اتساعا.

رابعا وعلى مستوى السياسة الخارجية والدور الإقليمي، حدثت تحولات عميقة في الدور المصري من عدو لإسرائيل لصديق يهنئها بحرب استقلالها ودعمها اقتصاديا بتصدير الغاز الذي يمثل ثروة قومية مصرية للشعب الإسرائيلي "الشقيق"، ومن قيادة المنطقة العربية ضد "العدو الصهيوني" إلى محاولة لعب دور "محايد" و"وسيط نزيه" في نفس القضية التي ناضلت مصر باسمها ومن أجلها عقودا، ومن عدو للولايات المتحدة التي توعدناها بشرب مياه البحرين الأبيض والأحمر على عهد الرئيس عبد الناصر لحليفها الاستراتيجي الأكبر لدرجة أن خطوط العداء والصداقة المصرية في منطقتنا تنطبق تمام الانطباق مع حدود العداء والصداقة الأمريكية. هذه كلها تغيرات أشبه بصدمات لم يستوعبها العقل الجمعي للمواطن المصري بما أفقده بوصلة تحديد مساحات الصواب والخطأ وحدود الفعل والتقاعس.

ولم يزل المصريون، تجاه أحداث غزة وغيرها، في حالة بحث عن خريطة وبوصلة، بل أقول قيادة، تساعدهم في الإجابة على سؤال: ماذا يفعلون؟ وحتى تأتي الإجابة المقنعة لهم فسيظلون قليلي الهمة، كثيري الشكوى، عديمي الهدف، سكارى بلا خمر، غضبى بسبب، أو حتى بدون سبب. فلا ينبغي أن نظلم المصريين فهم ضحايا نخبهم أكثر منهم جناة في حق أنفسهم.

Monday, February 23, 2009

الغنوشي يكتب: المؤسسة الإسلامية الغربية في عصر العولمة








راشد الغنوشي

إذا كان الإسلام عالميا في مصادره، فهل يصنع تنزيله على واقع مخصوص مثل الواقع الغربي المعاصر فقها متميزا؟

1- قراءة موجزة في الواقع الدولي
لعل أهم كلمة تصلح لتوصيف الواقع الدولي في هذه الفترة هي الشعار الذي خاض تحت لوائه الرئيس الأميركي المنتخب باراك حسين أوباما معركته في اتجاه البيت الأبيض.. شعار التغيير، فحقق ما كان يظن أنه مستحيل: رجل أسود فقير من أصول إسلامية يصل إلى قمة الهرم في أعظم دولة بيضاء تأسست على العنصرية وتعظيم الثروة والروح الإنجيلية.

وما كان ذلك ممكنا لولا عمق أزمة الأنموذج الذي تطلب البحث عن منقذ له، وليس عن أي رئيس، عن زعامة استثنائية كاريزمية يعلق عليها الأمل في إنقاذ سفينة تغذ السير باتجاه الغرق، وبان ذلك سافرا حتى قبل اندلاع تسونامي انهيار مؤسسات رأس القاطرة الذي يقود الرأسمالية والنظام الدولي.

"
القوى التي دفعت بأوباما إلى البيت الأبيض قوى حقيقية مدركة لعمق الأزمة التي قادت إليها السياسات السابقة بما جمّع حول شعار التغيير كتلة ضخمة من الشباب والنساء والمحرومين وحتى من الطبقات الوسطى وحتى من قلب المؤسسة الرأسمالية على أمل أن ينقذ السفينة
"
وكانت أهم أسباب الأزمة التي جلبت الأضواء ومَحْوَرَتها حول شعار التغيير قد تمثلت في فشل أكبر وأقوى جيوش العالم في الانتصار على مجاميع شعبية مسلحة بأسلحة بسيطة في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان والصومال، بما أعطى الوقت الكافي لانتعاش قوى دولية منافسة كالصين والهند وروسيا وإيران.

الحقيقة التي للمسلمين أن يفخروا بها هي أنهم كما كان لهم شرف الإسهام الكبير في انهيار إمبراطورية الإلحاد، فقد كان لهم الشرف العظيم أن كان لمقاوماتهم الإسلامية الدور الطليعي في استنزاف قوى العملاق الأميركي وإصابة جيوشه واقتصاداته ومجتمعه بأعظم الخسائر التي فاقت قوى تحمله.

وأفدح من ذلك خسائره المعنوية ممثلة فيما يسمى قواه الناعمة أو ما يعرف بالحلم الأميركي أو النموذج الأميركي الجذاب، وذلك بما تكشف من كذبه ووحشيته وسقوطه الأخلاقي كما تبدى في أبو غريب وبغرام وغوانتانامو، عاريا من كل طلاء وكساء.

وجاءت انهيارات المؤسسات الرأسمالية العملاقة لتقدم دعما هائلا لزحف أوباما صوب البيت الأبيض ولشعاره في التغيير، وكان وصوله متحققا ولو دون اندلاع الأزمة ولكن بزخم أقل.

واضح أن عالما قد انهار وآخر بصدد التشكل ولمّا تتضح معالمه: عالم ينهار هو الذي تشكل في أعقاب وعلى أنقاض انهيار الاتحاد السوفياتي فانفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي بما هو مؤسسات دولية تحكمت فيها، وبما هو نموذج عولمة اقتصادية رأسمالية متوحشة أطلقت العنان لقوى السوق على خلفية قدرات خفية تملكها لتحقق من تلقائها التوازنات المطلوبة ومصالح الجميع، عولمة أو نظام عالمي يدار من قبل البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

نظام عالمي احتاج من أجل دوام تعبئة قواه إلى عدو تشحذ له الأسلحة، فرشحت القوى الصهيونية المسيحية الإسلام عدوا، مقابل تحويل الكيان الصهيوني قلب الشرق الأوسط، بما يقتضيه ذلك من فرض المزيد من التمزق على دوله وشعوبه وطوائفه، يحول دونها وكل مسعى توحيدي أو تنموي.

ومقابل العالم الذي ينهار وكل المساعي متجهة إلى محاولة وقف الانهيار -وفي هذا السياق جاء انتخاب أوباما- هناك عالم يتلمس خطاه ولماّ تتضح معالمه، ولعل من أهمها:

أ- تعدد المراكز والأقطاب: لقد انتهى عصر القطب الواحد، ومن مؤشرات ذلك ظهور أقطاب وقوى إقليمية عجزت مرحلة القطب الواحد عن محاصرتها، بل استمرت في التعملق مثل الصين وروسيا والهند..

ب- قوى إقليمية ثلاث: واضح أن القوى الإقليمية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط هي ثلاث ليس العرب واحدة منها، إيران وتركيا وإسرائيل.

فليس للعرب هدف مشترك ولا خطة جامعة.. كل دويلة من دويلاتهم تبحث منفردة لاهثة عن ضمانات استمرار حاكمها المنفرد، وذلك في عالم لا يعترف بالأقزام. وما حصل في غزة شاهد ناطق على هوان العرب.

ج- صيغة جديدة للاقتصاد: البحث جار بعد انهيار نموذج الرأسمالية المتوحشة عن صيغة جديدة للاقتصاد تجمع بين حرية السوق وشروط العدالة الاجتماعية عبر تدخل الدولة لاستعادة التوازن.

وفي هذا الصدد يمكن للاقتصاد الإسلامي أن يقدم حلولا وصيغا للمعاملات المالية بمنأى عن نظام هوبزي دارويني يقوم على قاعدة حرب الكل ضد الكل.

د- إن الفشل الذريع لإستراتيجية الحرب على الإرهاب وكانت غالبا الاسم الرمزي للحرب على الإسلام تلك الحرب التي مثلت تهديدا خاصة للوجود الإسلامي في الغرب، يضع أمام الإسلام فرصة لأداء رسالته في إعادة المعنى والقيمة الخلقية إلى حضارة فقدتهما.

هـ- فرص جديدة للأقليات الإسلامية وللحركة الإسلامية والديمقراطية: إن الأقليات الإسلامية في الغرب بشكل خاص تنفتح أمامها فرص غير مسبوقة للاندماج الفاعل في مجتمعاتها.

إن وصول رجل أسود إلى البيت الأبيض يمثل بشرى لكل السود، أي للفئات المستضعفة في كل بلد. إن أمامها فرصا لإنتاج أوباما فرنسي أو ألماني أو إنجليزي أو سويدي.. بل إن الإسلاميين يكادون يكونون سود كل بلد.

و- مرحلة انتقالية: لا أحد عارف بالأوضاع الدولية وببنية النظام الأميركي يتوقع أن تنقلب السياسة الأميركية بقيادة أوباما رأسا على عقب: عونا للضعفاء ونصرة للمساكين وحربا على الظالمين، فليس ذلك متخيلا، فنحن إزاء بنية نظام قام على الضد من ذلك.. على القوة والهيمنة.

ولكن القوى التي دفعت بأوباما إلى البيت الأبيض قوى حقيقية مدركة لعمق الأزمة التي قادت إليها السياسات السابقة بما جمّع حول شعار التغيير كتلة ضخمة من الشباب والنساء والمحرومين وحتى من الطبقات الوسطى وحتى من قلب المؤسسة الرأسمالية على أمل أن ينقذ السفينة، بما يقطع أن قدرا من التغيير لا بد قادم ولكن في سياق الاستمرارية وليس الثورة والانقلاب على الماضي، ونظرة على التعيينات في الإدارة الجديدة تكشف عن هذا المنزع من التغيير والاستمرارية.

"
استنادا إلى وصول أوباما إلى الحكم، من المرجح أن السود في كل بلاد الغرب -أي الفئات المهمشة- بصدد الوصول إلى مراكز القرار، والمسلمون ينتمون إلى هؤلاء، وكذا الإسلاميون في البلاد الإسلامية
"
فمن التغيير المتوقع الحد من طغيان رأس المال الافتراضي لصالح الاقتصاد الحقيقي، كالحد من طغيان قوى السوق لصالح التدخل لفائدة جمهرة الناس عبر الاستثمار في التعليم والصحة والإسكان وعبر نظام ضريبي يعيد التوازن.

ويستتبع ذلك إعادة النظر في إستراتيجية الحرب على الإرهاب، وما يقتضيه ذلك من حد للتوسع العسكري والمغامرات العسكرية، وإعادة الاعتبار إلى المنظمات الدولية والتنسيق مع الحلفاء، وقد يكون من انعكاسات ذلك إعادة النظر ولو في طور لاحق في السياسات الأميركية الداعمة للأنظمة الدكتاتورية وممارسة أقدار من الضغوط على الكيان الصهيوني لصالح فرض تسوية قد يكون ما يسمى بالخطة العربية صيغة مقبولة لها، عودا إلى سياسات كلينتون، وإن كانت الأولوية لإدارة أوباما لوقف تدهور النظام الرأسمالي الذي يعد الاختبار الأعظم لنجاحه أو فشله.

باختصار يمكن اعتبار أن المرحلة كما قيل هي مرحلة الأنصاف وليس الإنصاف: رئيس من أب أسود وأم بيضاء، أب مسلم وأم نصرانية، رئيس من أب أفريقي وأم أميركية. وهكذا مرشح أن تكون الحلول أنصافا بين المحافظة والتجديد، بين رأسمالية بجرعة اشتراكية أو إنسانية، سيطرة أميركية بشراكة أوروبية.

في هذا السياق تبدو الحرب على إيران غير مرجحة بقدر الحوار والتعاون معها، بما يزيد العرب تهميشا ويضاعف من اهتزاز شرعية أنظمتهم ويقدم لقوى التغيير ومنها الإسلامية فرصا أكبر للتأثير وللتغيير إذا هي أتقنت فن التحالف والعمل المشترك مع القوى الأخرى وعوّلت على التغيير عبر حركة شعبية تتقدمها جبهات ترفع شعار التغيير لا الترقيع لأسمال شبعت اهتراء.

2- واقع المسلمين في الغرب
لا يزال المسلمون في الغرب خليطا من جيل المهاجرين المشدودين ألصق بثقافة أصولهم ومشاكل بلدانهم، ومن الجيل الناشئ في الغرب ممن تربى في مدارسه وجامعاته ويشعر أن هذه البلاد وطنه ليس له وطن سواها.

والكفة لا تزال مائلة إلى جيل المهاجرين، معظم مراكز القيادة في يده، وذلك خلافا لليهود مثلا، بسبب حداثة هجرة المسلمين، وهو ما يحد من تأثير الكم الإسلامي ولا يحوله إلى كيف.. إلى قوة انتخابية مثلا.

ويجعل هذا الكم أقرب إلى الهامشية ومحدود القدرة حتى على الدفاع عن وجوده وإسلامه في مواجهة قوى مدربة ذات نفوذ واسع مثل قوى اللوبي الصهيوني وقوى اليمين العنصري اللذين تجاوزا خلافاتهما التاريخية واجتمعت قواهما على حرب هذا الدخيل بالتهميش تمهيدا للترحيل.

يضاعف من مشاكل المسلمين تصاعد تأثير جماعات الإرهاب على صورة الإسلام عامة وعلى الأقليات المسلمة بشكل خاص، بما يكاد يجعل من كل مسلم في الغرب مشروع إرهابي يخشى منه.

يحدث هذا في غياب نماذج مجتمعية إسلامية تشهد لعدالة الإسلام ورحمته وقدرته على استيعاب كل كسب حضاري، بما يرجح صورة الإسلام الخطر، والربط بينه وبين الإرهاب والعداوة للفنون الجميلة وللديمقراطية وللسلام ولحرية المرأة ولحقوق الإنسان، بما هو الضد من كل وجه لدين، إنما جاء لمصالح العباد وتتميم مكارم الأخلاق واعتبار البشر كلهم إخوة.

أما المؤسسات الإسلامية فتصارع على كل هذه الجبهات للدفاع عن وجودها وسط حصار يكاد يكون مطبقا، ولا ينفي ذلك وجود قوى عاقلة في الغرب تنطلق من أن الإسلام أمر واقع ومكون من مكونات الحقيقة الغربية، وليس من سبيل غير العمل على إدماجه والإفادة مما يتوفر عليه من إمكانات خلقية اجتماعية يحتاجها الغرب.

وهذه القوى العاقلة هي التي لا تزال غالبا تمسك بمقود القيادة السياسية ولكنها تتلقى ضغوطا هائلة وبالخصوص من قبل القوى اليمينية والصهيونية وما تمتلكه من قنوات إعلامية نافذة وتهدد بالوصول إلى الحكم لتنفيذ برامجها.. ولا يؤمن وصولها.

وصول أوباما إلى الحكم على كل حال ليس في المحصلة لصالح هذه القوى. والمرجح أن السود في كل بلاد الغرب -أي الفئات المهمشة- بصدد الوصول إلى مراكز القرار، والمسلمون ينتمون إلى هؤلاء، وكذا الإسلاميون في البلاد الإسلامية.

ولكن الواضح أن محصول المسلمين ضعيف على صعيد عقد تحالفات مع القوى ذات المصلحة في التغيير مثل القوى الحقوقية والإنسانية واليسارية، عدا أمثلة محدودة برزت هنا في السويد خلال حكم الاشتراكيين كما برزت في بريطانيا خلال الحرب على العراق وفلسطين عندما تولى قيادة الرابطة الإسلامية فريق تمكن من عقد تحالف واسع مع فئات يسارية ومضادة للعولمة وللحرب قادت مسيرات مليونية.

"
الإسلام الغربي يمثل أهم تطورات عصرنا، وهو مرشح لأن يكون له دور مهم جدا في مستقبل علاقات الإسلام بالغرب كجسر تواصل وتقارب قد ينتهي بوضع حد نهائي لعلاقات الحرب
"
من جهة أخرى تتعرض الأجيال الجديدة في الغرب لأخطار كثيرة وأزمات منها أزمة الهوية، ممزقين بين هوية البلد الأصلي وبين بلد الإقامة بين الإسلام وبين الثقافة السائدة، مهددين بالبطالة، بما جعل نسبة المسلمين في السجون الغربية نسبة عالية، حتى غدت مصدر تهديد للاستقرار والأمن والاختراقات الإرهابية.

ويمثل شباب الضواحي في فرنسا نموذجا لسياسات التهميش الحكومية ولعجز المؤسسات الإسلامية عن الاستيعاب، بسبب نزوعات المحافظة السائدة التي لا تعطي للمسألة الاجتماعية أهمية كثيرة. تركيز اهتمامها على المسائل الدينية، بما يجعل خطابها وجمهرة الشباب المهمش في واد آخر.

3- مقتضى ذلك
واضح أن الحالة الموصوفة تقتضي عملا جادا لتغيير شامل وعميق، بعض ذلك التغيير هو بأيدينا عبر مراكزنا ومدارسنا إذا استطعنا أن نجعل منها بوتقة تفاعل إيجابي بين ثقافة إسلامية أصيلة وسطية وبين مقومات الثقافة الغربية المحلية من أجل إنتاج مسلم سويدي أولا ثم مصري أو تونسي..

ومن مقتضيات ذلك المزاوجة بين تعليم اللغات المحلية ولغة الأم، ودوام تواصل الأجيال الجديدة مع بلد المنشأ، وهناك مهام أخرى من طبيعة سلطانية لا تتم إلا بتعاون بين المراكز الإسلامية وفيما بينها وبين النظام الحاكم، من مثل مواجهة آفة البطالة والطرد من المدارس وتوفير فرص أكبر أمام بروز قيادات إسلامية في كل المستويات السياسية عبر الانخراط في كل الأحزاب القائمة، وعبر الوظائف الإدارية القيادية وتشجيع الشباب الإسلامي على الاستثمار وعبر التدريب الإعلامي وتمويل المؤسسات الإسلامية للقيام على تدريب الشباب الإسلامي في كل المستويات.

واضح أن الخطاب الإسلامي في الغرب مطلوب أن يتطور في كل اتجاه، في اتجاه إسلامي جامع لكل مكونات هذا الوجود، متجاوزا الحدود القطرية والاختلافات الحزبية والمذهبية باحثا عن الإجماع.

وذلك حتى يمكن لهذا الكم الإسلامي الممزق أن يكتشف مصالحه الجامعة ويعبر عنها تعبيرا واحدا، وأن يتطور في اتجاه الأجيال الجديدة متوجها إليها بلغاتها حاملا همومها مستوعبا مشاكلها، وأن يتطور في اتجاه أبناء البلد الأصليين حاملا خطابا إسلاميا وطنيا بأثواب قيمية إنسانية جامعة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكانة الآداب والفنون ومكانة المرأة والدفاع عن مقومات الوطنية.

يضاف إلى ذلك ضرورة البحث عن وفاقات وعقد تحالفات مع القوى التحررية في البلد في سياق ثقافة إسلامية غربية سويدية فرنسية ألمانية..إلخ، على غرار ما أنتج الإسلام من ثقافات قومية مثل الثقافة الإسلامية التركية والثقافة الإسلامية الفارسية والعربية والأفريقية..إلخ.

أخيرا.. إن المؤكد أن الإسلام الغربي يمثل أهم تطورات عصرنا، وهو مرشح لأن يكون له دور مهم جدا في مستقبل علاقات الإسلام بالغرب كجسر تواصل وتقارب قد ينتهي بوضع حد نهائي لعلاقات الحرب، فاتحا عهدا جديدا من التعارف والتعاون.. "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (سورة الحجرات).
__________________
مفكر تونسي


المصدر: الجزيرة

احتجاجات + مظاهرات = ؟

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

23 فبراير 2009 10:41:21 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 2

احتجاجات + مظاهرات = ؟

يبالغ البعض في تصوير الدلالات السياسية للاعتصامات والإضرابات التي تقوم بها بعض فئات المجتمع المصري من أجل مطالب فئوية والتي أظن أنها لن تكون ذات دلالات كبيرة في بنية النظام السياسي المصري. وهذه أسباب خمسة محتملة لثقافة اللا حركة الجماعية التي تغلب على المجتمع المصري.

1- نظرية القدرة على التكيف بالحيلة والاعتدال السلبي: وأجد أفضل تجسيدا لهذه النظرية في كلام جمال حمدان: "إن مأساة مصر تكمن في نظرية الاعتدال، فلا هي تنهار قط، ولا هي تثور أبدا .. وإنما هي في وجه الأزمات تظل فقط تنحدر.. تتدهور.. تطفو وتتعثر من دون مواجهة حاسمة تقطع الحياة بالموت أو الموت بالحياة".
وحال مصر هي حال المصريين، فضعف مرتبات المدرسين يواجه بالدروس الخصوصية، وضعف مرتبات الموظفين، يواجه بسياسة الدرج المفتوح، وندرة الوظائف الحكومية تواجه بضمان الأب لوظيفة لابنه. وأكثر من ذلك، فإن غلبة الطابع التكيفي على المصريين جعلهم على استعداد للتضحية بالصالح العام مقابل مصلحة ضيقة تحت وطأة الحاجة فيصوت كثير من العاملين في شركات قطاع الأعمال العام أو المؤسسات الحكومية لقيادات الشركة أو المؤسسة..

وحين يدعو قادة الرأي العام جموع المصريين إلى ما قد يتناقض مع المهام الرسمية للموظفين، فإن الأولوية للوظيفة. وهو ما يفسر، جزئيا، لماذا لا يستجيب معظم المصريين لنداءات قادة المعارضة إلى وقفات شعبية أو للعصيان المدني. وهي جزء من تقاليد (مستبد... لكن) التي تبحث وتجد ألف عذر لاستبداد الحاكم. هي عقلية التماهي مع القوي ورفض الخروج عليها بمنطق "من أكل من بيت الكافر، حارب بسيفه".

2- نظرية الحكومة القوية في مواجهة المجتمع الضعيف: وهي نظرية أخرى تنظر إلى الحكومة باعتبارها المسيطرة على المجتمع الموجهة لسلوكه فهي حكومة العصا والبقشيش التي تستخدم العصا في مواجهة من عصى وتستخدم البقشيش لمكافئة من أطاع ووفى.

وأفضل مظاهر قوة الحكومة وضعف المجتمع هو في منطق "دولة البقشيش" التي تعيد توزيع الموارد على حسب المصالح في صورة أراضي وفيلات وشاليهات وامتيازات لكبار رجال الدولة لاسيما القابضين منهم على مهام الأمن بأسعار مقبولة ومتميزة وهي أموال كان من الأفضل حتما أن تنفق على التنمية والتحديث. وعلى هذا يجد المواطن نفسه في مواجهة مع حكومة تكون في قمة أدائها البيروقراطي وهي تقوم بمهام الأمن والاستقرار ثم تتراجع كفاءتها وهي تقوم بما وراء ذلك من مهام تنموية وتحديثية.

3- نظرية المثبطات الاجتماعية بين الدين والكرامات، وتبدو مظاهرها في ملمحين: فهناك أولا الخطاب الديني المثبِّط، وأوضح من تناول هذه النظرية هو كارل ماركس في هجومه السافر على الدين باعتباره أفيون الشعوب، لأنه يستخدم من قبل القائمين على شئون الدولة كأداة لتهدئة المعارضين بوعظهم بشأن جنة الخلد التي سينالها الصابرون القابضون على الجمر من باب أن الثواب على قدر المشقة.
وإذا كان كلام ماركس انطبق تماما على الكنيسة الكاثوليكية حتى القرن التاسع عشر، وحتى إن انطبق على بعض الدعاة المعاصرين الذين يؤكدون على طاعة ولي الأمر ما أقام الصلاة فينا، وكأن المشكلة وحدها هي إقامة الصلاة، فإن ماركس أغفل حقيقة أن اليهودية والإسلام جاءتا كثورة على أوضاع سياسية واجتماعية قائمة، فموسى ومحمد عليهما السلام كانا نبيين عظيمين وثائرين ناجحين.
إن المشكلة حقيقة ليست في الدين بذاته ولكن كيف يوظف، فلو أن الإسلام الذي نمارسه الآن كان هو ما طرحه الرسول محمد على قريش لما رفضته، لأن أغلب الخطاب الإسلامي المعاصر مثبط محبط (بفتح الباء وكسرها). فلا شك أن الآخرة خير وأبقى ولكننا مطالبون أن نكون أسيادا للكون عبيدا لله وهذا من صحيح الإيمان، ولاشك أن التفاوت في الرزق من آيات الله لكن هذا شيء وعدم الرقابة المحكمة على المال العام شيء آخر، والخلط بينهما كالخلط بين صحيح الدين والشعوذة.

وهناك ثانيا المقارنة المثبطة والتي تجعل الكثير من المصريين يقارنون مصر بمن هم دونها وليس من ينبغي أن نتطلع لأن نكون مثلهم، فكثير من المصريين يرفع شعار "إحنا أحسن من غيرنا" ويقصدون بذلك دولا أخرى محيطة تعاني من قهر أكبر أو عدم استقرار أو احتلال أجنبي. وهذه المقارنة المثبطة تجعلنا قانعين بقسمة الله وما هي بقسمته وإنما هي نتاج تكاسلنا وجهلنا، وكأن الله كتب على الشعوب العربية أن تتبارى في القبح والتسلط والفساد.

4- نظرية شرعية القيادة وتحلل الدولة والتي تؤكد على أن الرئيس مبارك نجح فيما لم ينجح فيه سابقاه وهو عدم ربط اسمه بفضائح مثل نكسة 1967 أو قرارات تتحدى الرأي العام مثل السفر إلى القدس لمخاطبة الكنيست أو حبس الصحفيين والمثقفين من كل الجهات أو حتى سوء إدارة يرتبط به مباشرة، فالقرارات الكبرى، حتى وإن تمت تحت رعايته وتوجيهاته، لكنها في النهاية تنسب إلى مجلس الوزراء. كما أن مصر في عهد الرئيس مبارك لم تعرف نمط المسئول السابق الذي يمكن له أن يكشف عن الخفايا والأسرار، فرئيس الوزراء السابق عادة ما يحصل على منصب سواء في مجلس الشورى أو في إحدى مؤسسات الدولة بما يضمن ولاءه، والوزير السابق عادة ما يحصل على نيشان أو يظل يحتفظ بامتيازات الوزير حتى في مرحلة ما بعد الوزارة. وعلى هذا يظل صندوق الحكم غامضا، وحتى إن وجد خلل، فهو لا ينسب إلى رئيس الجمهورية أو لنظام الحكم وإنما لرئيس الوزراء ومن هم دونه. وبالتالي يكون الحل في حالة وجود مظالم هو مناشدة مؤسسة الرئاسة وليس الخروج عليها. فيتحلل المجتمع وتتفكك الدولة ومع ذلك تظل شعبية الرئيس في غير محل شك.

5- نظرية صعوبة العمل الجماعي ومنطق العائد بلا مجهود: هذه مشكلة شائعة في كل الدول غير الديمقراطية حيث لمقاومة التسلط ثمن قد يكون باهظا. وأفضل تجسيد لهذه المشكلة هو الإجابة على سؤال: من الذي يتبرع بتعليق الجرس في رقبة القط؟ ومن الذي يبدأ العصيان الجماعي؟ وما الذي يضمن له أن يشارك معه آخرون؟ وما الذي يضمن أنه لن يتحمل وحده عواقب التمرد في حين يحصل آخرون على عائد بلا مجهود؟ وهذا هو جوهر نظرية العمل المؤسسي التطوعي سواء في شكل أحزاب أو حركة مثل كفاية بأن تحل مشكلة "من يبدأ" ولكن المعضلة في أن من يبدأ لا بد أن يتحلى بخصائص تجعله ليس فقط "ثائرا" ناجحا وإنما أيضا "بديلا" مقنعا. وهو ما يبدو أن أيا من القيادات الشعبية والحزبية الحالية لم تنجح في تقديمه. وينسب إلى صدام حسين أنه قال إنه كان المثقف الشجاع الوحيد لذا هو الذي فاز بحكم العراق لأن بقية العراقيين كانوا إما مثقفين جبناء أو شجعان جهلاء، أما هو فقد جمع بين ما كان نادرا عند أقرانه.

إذا وضعنا الأسباب الخمسة السابقة جنبا إلى جنب فإننا يمكن أن نفهم ولو جزئيا، لماذا نشتكي ولا نتحرك، لماذا نبكي ولا نشارك.

شهر عسل قصير

أعمده

بقلم:
جلال أمين

23 فبراير 2009 10:26:01 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 0

شهر عسل قصير

عندما صدر في سنة 1955 كتاب «في الثقافة المصرية» لعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، أثار ضجة كبيرة في أوساط المثقفين المصريين، وتحمسنا له بشدة، نحن صغار المثقفين.

ولكنى عندما أعدت قراءته بعد نحو أربعين عاما من صدوره، دهشت دهشة عظيمة لما وجدت فيه من خفة في معاملة أدباء عظماء، وجرأة عليهم لا يمكن تفسيرها إلا بالحماسة الزائدة عن الحد، والاندفاع غير المبرر (إلا بصغر السن) لتطبيق أفكار عامة هي الأفكار الماركسية، دون اعتبار للاختلافات بين بلد وآخر وبين ثقافة وأخرى.

لا شك عندي في أن أنيس والعالم قد أدركا ذلك مع تقدمهما في السن. فقد قرأت لكل منهما ثناء عاطرا على بعض هؤلاء الذين كانوا يهاجمونهم بقسوة في كتاب «في الثقافة المصرية»، وكتب عبد العظيم أنيس كلاما مؤثرا للغاية عن طه حسين في كتابه الصغير «ذكريات من حياتي، كتاب الهلال يونيو 2002» ، فهو يصف مثلا شعوره وقت سماعه بخبر وفاة طه حسين بقوله: «ثم جاء النذير بالنبأ التعس، نبأ وفاته في أكتوبر عام 1973، وأحسست بغم ثقيل، وتملكتني كآبة دامت أياما.

وعندما مشيت في جنازته التي خرجت من جامعة القاهرة، لم أكن أحس أن مصر فقدت رجلا من كبار رجالها ومفكريها فحسب، وإنما كنت أحس أنني فقدت إنسانا عزيزًا على نفسي، قريبا من قلبي، على الرغم من أنني لم أقابله غير مرات معدودات لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وعلى الرغم من خلافنا في الفكر».

* * *

ذهب عبد العظيم أنيس إلى لندن في 1954 ليدرس في جامعتها هربا بنفسه من معاملة قاسية من النظام الجديد في مصر، ودون أن يتوقع أنه سيعود من جديد في سعادة بالغة في 1956 ليحاول مرة أخرى أن يكون في خدمة بلده.

كان سبب هذا التحول الكبير هو تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦، الذي أشعل حماسنا جميعا، ماركسيين وغير ماركسيين، وتوقعنا كلنا دخول مصر مرحلة جديدة باهرة مليئة بالإنجازات التي طال انتظارها.

كانت فترة سعيدة حقا في حياة مصر، دامت نحو ثلاث سنوات «56 ـ 1958»، كما كانت بلا شك من أسعد سنوات الماركسيين المصريين، فقد سرهم ما أعلنه عبد الناصر بمناسبة تأميم القناة وبعدها، من تحدى الغرب ورفضه للمشروعات الاستعمارية «كمشروع حلف بغداد الذي كانت ترعاه بريطانيا لضمان استمرار نفوذها في المنطقة، وكمشروع أيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط، الذي كان يعنى في الحقيقة حلول النفوذ الأمريكي محل النفوذ البريطاني»

فجأة رأى الماركسيون المصريون في عبد الناصر «زعيما وطنيا يمكن التعويل عليه»، وإن لم يكن بالطبع مؤهلا في نظرهم لقيادة ثورة اشتراكية. ضاعف من آمالهم ما اتخذه عبد الناصر من إجراءات لتأميم البنوك الأجنبية، بعد نجاح تأميمه لقناة السويس، وتبنيه لسياسة التخطيط الاقتصادي (فأنشأ لها لجنة تحولت بعد ذلك إلى وزارة)، ووضع برنامجا طموحا للتصنيع في 1958 (تحول بعد ذلك إلى جزء من خطة خمسيه على نمط الخطط السوفييتية)، ناهيك عن انضمام عبد الناصر لسياسة عدم الانحياز وتبنيه شعار الحياد الإيجابي في أعقاب حضوره لمؤتمر باندونج في 1955.

استجاب عبد الناصر لتحول مشاعر الماركسيين المصريين نحوه، أو حاول الإفادة منها، فسمح لهم بإصدار مجلات تنطق صراحة بلسان الماركسيين «كمجلة الهدف ومجلة كتابات مصرية»، كما سمح للكتاب المتعاطفين مع الماركسية بالتعبير عن أفكارهم اليسارية في الصحف اليومية، كما استعان بماركسيينا الأربعة في الدفاع عن سياسته وفى دعم مؤسساته الاقتصادية الجديدة.

ففضلا عن السماح بعودتهم إلى أماكنهم في الجامعة، نشط أنيس والعالم في الكتابة الصحفية بقصد ترسيخ هذا التحول في اتجاه الاشتراكية، واشترك إبراهيم سعد الدين في دعم وترسيخ التحول إلى سياسة التخطيط، تحت رئاسة رجل فذ آخر هو إبراهيم حلمي عبد الرحمن، بينما ساهم إسماعيل صبري بنشاط فيما سمى «بالمؤسسة الاقتصادية» التي أنشئت لتنظيم إدارة القطاع العام، واشترك معه فيها ذلك الماركسي الفذ الآخر، سمير أمين، الذي لعب دورا مهما فيما بعد في تطوير الفكر الماركسي على نطاق العالم بأسره.

* * *

ما الذي حدث في أواخر سنة 1958 لينهى فجأة شهر العسل القصير هذا بين عبد الناصر والماركسيين؟

ربما كان السبب قيام عبد الكريم قاسم المؤيد بشدة من الاتحاد السوفييتي، بانقلاب في العراق نحّى به عبد السلام عارف الذي قاد ثورة يوليو 1958، واتخاذه موقفا معاديا لعبد الناصر، في نفس الوقت الذي بدأ الاتحاد السوفييتي فيه يهاجم الوحدة بين مصر وسوريا، ويتهم عبد الناصر بالتبعية للأمريكيين.

أم كان لهذا التحول المفاجئ في موقف عبد الناصر من الماركسيين في أواخر 1958 علاقة ببدء تدفق المعونات الغذائية الأمريكية على مصر في نفس السنة؟ هل أراد عبد الناصر أن يؤكد للأمريكيين أن هذا التحول في سياسته الاقتصادية في اتجاه اشتراكي لا يعنى تحول ولاته لصالح الاتحاد السوفييتي؟ أيا كان السبب فقد حدث في أول يوم من سنة 1959، أن قام عبدا لناصر باعتقال عدد كبير من الماركسيين والاشتراكيين، ،كان من بينهم ثلاثة من رجالنا الأربعة الكبار «كان إبراهيم سعد الدين لحسن حظه خارج مصر في ذلك الوقت»، وظل الثلاثة «عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم وإسماعيل صبري» في السجن دون محاكمة أكثر من خمس سنوات، إذ لم يفرج عنهم إلا في مايو 1964، وتعرضوا خلالها لأنواع مختلفة من التعذيب تم توثيقها في المذكرات التي كتبها ونشرها زملاؤهم في السجن.

في مايو 1964 أفرج عنهم جميعا، ولسبب مدهش. ففي هذا الشهر جاء الزعيم السوفييتي خروشوف لافتتاح السد العالي الذي بني بمعونة سوفييتية، والظاهر أن من بين شروط خروشوف للقدوم إلى مصر لهذا الغرض كان شرط الإفراج عن الشيوعيين المعتقلين، ولكن ربما كان السبب الأهم بداية التحول في العلاقة بين عبد الناصر والولايات المتحدة في أعقاب مقتل الرئيس كينيدي في أواخر 1963، هذا التحول الذي بلغ قمته في هجوم إسرائيل على مصر بتأييد كامل من الولايات المتحدة في 1967.

دفع رجالنا الأربعة إذن جزءا غاليا من حياتهم، وهم في قمة قدرتهم على العطاء، ومنعوا من تقديم أي خدمة لبلادهم، نتيجة لتحولات سياسة مصر الخارجية بين الأمريكيين والسوفييت. المدهش مع ذلك أنهم بمجرد خروجهم من السجن أبدوا استعدادهم الكامل لخدمة النظام، طالما رأوا ما يطلب منهم في صالح الاشتراكية. بدوا وكأنهم نسوا تماما ما وقع بهم من ظلم، واعتبروه ثمنا زهيدا لا بأس من دفعه متى كانت الاشتراكية هي النهاية السعيدة، ولكن سرعان ما تبين لهم، بوقوع هزيمة 1967 أن هذا النظام غير قادر في الحقيقة على تحقيق آمالهم، ثم تأكد لهم هذا بعد سنوات قليلة من اعتلاء السادات الحكم. ولكن هذا يحتاج بالطبع إلى تفصيل.