Saturday, May 30, 2009

إلى متى تستمر حرب الإسلام على الإسلام؟


الرابط الأصلي
راشد الغنوشي


قد يبدو إيجابيا لصالح التحول الديمقراطي أن يخسر الانتخابات فريق إسلامي هنا أو هناك، حتى تنتزع من مخالب أنظمة القمع فزاعة لا تني تحركها كلما تعرضت لضغط من الداخل أو الخارج من أجل الانفتاح, فزاعة الاكتساح الإسلامي للساحة، لو أن النظام القائم حارس العلمانية والحداثة والمصالح الغربية فتح أمامهم الباب!!

خسارة فريق إسلامي هنا أو هناك أيضا تعيدنا للسياسة، باعتبار أن هاهنا كانت إعاقة الأمة المتوارثة والمستمرة، إذ عجزت عن إدارة اختلافاتها السياسية بالشورى بديلا عن القوة.

إن رفع الإسلاميين شعار الإسلام هو الحل لا يعني أنهم قد تجاوزوا والأمة هذه الإعاقة ولا أنهم بحال يملكون مفاتيح الجنة والنار، فهم مثل غيرهم يخطئون ويصيبون يربحون ويخسرون ويختلفون ونادرا ما يتحدون، وكثيرا ما يبلغون اختلافا حد تكفير بعضهم بعضا بل حد سفك دماء بعضهم بعضا، وهو جزء من المشهد العام للأمة آخذ في الاتساع، كيف يفسر وكيف يعالج؟

"
حرص الإسلام على أن يرسخ في معتنقيه أنهم أخوة، والأخوة أوثق الروابط الأسرية، بما يعنيه ذلك من شعور بالتضامن والتآزر والتوحد والمحبة والمساواة والاشتراك في الانتماء إلى جماعة واحدة
"
1- حرص الإسلام على أن يرسخ في معتنقيه أنهم أخوة، والأخوة أوثق الروابط الأسرية، بما يعنيه ذلك من شعور بالتضامن والتآزر والتوحد والمحبة والمساواة والاشتراك في الانتماء إلى جماعة واحدة.

ولقد كان توفيق صاحب الدعوة عليه السلام باهرا في غرس هذه الثقافة والشعور والروابط في أمة العرب معدن الإسلام الأول، القوم الذين شرّح العلامة ابن خلدون مكونات شخصيتهم الجمعية ووقف على أخطر ثغراتها: الانفراد الذي وصفه بخلق التوحش "فهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، فلا ينقادون إلا لنبي أو لوليّ"، ويعني بذلك ضعف إرثهم السياسي والتمدّني فهم أهل بادية وبخاصة عرب الحجاز يومئذ، فلم يكن يشدهم من رابط غير رباط واهن هو القبيلة، وكثيرا ما ثقل على أحرارهم فتصعلكوا.

ولذلك كان مفهوما أن يبدئ صاحب الدعوة ويعيد وهو يروض ويمدّن توحشهم توكيدا متكررا للجماعة والطاعة وربطهما بالإيمان وربط التمرد عليهما بالجاهلية. ولقد بلغ أمر حرصه عليه السلام على إبراز الجانب الحضاري التمديني لدعوته أنها لم تكن مجرد دعوة دينية بل هي في الآن دعوة سياسية حضارية شاملة أن سمىّ حاضرة ملكه "المدينة" ربطا بالتمدن، فحظر على صحبه القادمين إليها من البادية العودة إلى التبدي فقال "من بدا جفا" مسند أحمد، بل اعتبر التبدي بعد تحضر منكرا.

2- غير أن الإرث العربي من التشقق القبلي ومن الضعف والهزال في التجربة السياسية هو ما سرّع بانقراض الخلافة الراشدة حيث كان الحكم للسياسة لا للقوة، وذلك بأثر تضاؤل شحنة الإيمان التي كانت سبيل العرب إلى السياسة، تضاءلت بتضاؤل الجيل القرآني الفريد (حسب تعبير سيد قطب) بالقياس إلى الأعداد الضخمة من مسلمة الفتح وما بعده من العرب وغيرهم، الأمر الذي أحدث اختلالا هائلا في التوازن داخل المجتمع الإسلامي المتورم بكثرة الداخلين الجدد، منجذبين إلى عدله، فكان من نتيجة ذلك أن عاد العنصر القبلي الذي توارى وكمن خلال مد الإسلام الأول، عاد ليفرض منطقه القبلي ضمن معادلة هو أقواها إلى جانب التراث الإداري والسياسي والثقافي للإمبراطوريتين الرومية والساسانية الهالكتين، دون أن يفقد الإسلام أسهمه جملة في هذه الشراكة.

وكلما تقدم الزمن قوي الأثر الإمبراطوري عبر الإدارة التي ورثها المسلمون بثقافتها السياسية بل وبعناصرها التي تدعّم أثرها في القرن الثاني، فما جاء القرن الثالث حتى مالت الكفة بالكامل لصالح غير العرب الذين ظلوا مجرد رموز للخلافة مسلوبين من السلطة، وحتى الفرع العربي الذي قاد أول انشقاق في الخلافة مؤسسا لحكم عربي في الأندلس لم يمض بعيدا حتى دب إليه داء العرب، داء التشقق والمسارعة إلى السيف بديلا عن السياسة في فض اختلافاتهم بسبب ضعف إرثهم من السياسة كما لاحظ ذلك بحق الأستاذ زيد الوزير، فذهب ملكهم ضحية تلك الإعاقة، حتى أنهم لم يكادوا يعرفون طعما للسياسة بعد الخلافة الراشدة، إذ تمحّض الملك للقوة.

3- بموازاة ذلك وبسببه تمكنت شعوب أخرى من إزاحتهم من الملك منذ العهد العباسي الثاني فالمملوكي فالعثماني والصفوي، حتى إذا عادوا إلى الملك منذ حوالي قرن لم تسعفهم تجربتهم الفقيرة من السياسة متعاونة مع الموازين الدولية المائلة لغير صالحهم، في إعادة بناء عالم السياسة، فكان إرث القبيلة والدولة السلطانية هو الأقرب إليهم من تجشم أعباء السياسة بما هي البديل عن القوة تعبيرا عن ملكة العقل في الإقناع والتفاوض والبحث عن تسويات من طريق اعتماد آليات مدنية.

4- وربما هذا ما يفسر ولو جزئيا النجاح النسبي للأمم المنافسة لأمة العرب في الإدارة السياسية مثل الفرس والترك، وذلك بالقياس إلى الفشل العربي الذريع في السياسة على كل المستويات سواء أكان في مستوى إقامة وحدتهم كما فعل غيرهم أم في مستوى إدارة أقطارهم بالسياسة لا بالقوة، أم في المستوى التنموي وحتى في مستوى الدفاع عن وجودهم في مواجهة الأخطار المحدقة بهم مثل بوادر عودة الاستعمار ناهيك بالسرطان الصهيوني خطرا مراهنا على دفعهم إلى مزيد من التفكك والتشظي سبيلا للمسك بخناقهم، فهاهم يستجدون التعايش معه، ويعرضون عليه الاعتراف الجماعي بما اغتصب، بدل مواجهته بل هم قد اتخذوا سياسة لهم، حراسته والمسك بتلابيب من يفكر في مقاومته.

"
قد يبلغ الإفلاس في السياسة أقصاه إذ يفضي الصراع على السلطة إلى انهيار الدولة جملة كما حدث في الصومال، أو تبلغ من البطش بشعبها والعتو إلى اليأس من إمكان التصدي لعنفها دون استعانة بقوى أجنبية، بما يجعل الخيارات المطروحة محدودة كثيرا
"
5- وقد يبلغ هذا الإفلاس في السياسة أقصاه إذ يفضي الصراع على السلطة إلى انهيار الدولة جملة كما حدث في الصومال، أو تبلغ من البطش بشعبها والعتو إلى اليأس من إمكان التصدي لعنفها دون استعانة بقوى أجنبية، بما يجعل الخيارات المطروحة أمام العرب من أجل توليد السياسة وإحلالها محل القوة خيارات محدودة كثيرا ما يكون أحلاها مرا، وذلك بعد أن سدت الدولة القائمة كل باب للسياسة باعتمادها المطلق في اكتساب وتثبيت شرعيتها على القوة، قوة الجيش أو البوليس والخارج من ورائها ظهير، حتى ما بقي للانتخابات –إذا وجدت- من وظيفة غير تصدير البلد إلى الغرب، بما يجعل الاشتراك فيها نوعا من التواطؤ والغش وتثبيت الباطل، مما لا يفضي إلى شيء غير البحث عن سهم في الغنيمة.

بعد أن استقر الحكم على القوة والمغنم، ما بدا معه أن الطريق إلى السياسة متجه إلى المزيد من الضيق، منفتح على بدائل تحمل في ذاتها جرثومة فسادها من مثل الاستظهار بقوى الخارج وهذه ليست منظمات خيرية ولا هي جيوشا للإيجار، بل هي دول عظمى دماؤها وأموالها أزكى من أن تهدر من أجل توريد السياسة (الديمقراطية) إلى المتعطشين لها العاجزين عن الحصول عليها, وهي بالتجربة لا تتحرك ولا تضحي إلا من أجل مصالحها.

وما حدث في العراق وفي أفغانستان من كوارث جرها التدخل الخارجي لا يغري عاقلا فتسول له نفسه أن هذا طريقا لاستيراد السياسة لتحل محل القوة نهجا في حكمنا.

يبقى طريق القوة سواء من طريق تشكيل عصابات مسلحة حدّثت نفسها بجولات سريعة تتخلص بها من بضعة أنفار من المستبدين! فما تمضي بعيدا حتى تجد نفسها وقد تورطت في معركة شاملة مفتوحة مع مؤسسة متشابكة متداخلة ممتدة يشترك فيها ويرتبط بها مئات الآلاف بل الملايين، لتكتشف أنه يجب عليها أن تقاتل كل من لا يقاتل معها، وهو نهج يفضي بها بالضرورة إلى التشقق وقتال بعضها بعضا، وهو ما حصل ويحصل في الصومال وفي الجزائر وفي العراق وأفغانستان وفي باكستان. فماذا يبقى غير سبيل الانقلاب وهو يبدو أنظف وأسرع سبيل إلى الخلاص من الدكتاتورية وإرساء وضع سياسي.

المتأمل في النتائج العملية التي انتهى إليها السالكون لهذا السبيل يتأكد من كارثيتها، فليس دائما السبيل الأسرع هو الموصل بل كثيرا ما كان هو السراب، فمنطق السهولة هو أضعف منطق، لا سيما أن منطق الانقلاب يحمل في ذاته تناقضا بدهيا في أنه سيفضي إلى السياسة، وهل يطلب الشيء من نقيضه؟ التجربة شاهدة على أن الانقلابات لم تفض -اللهم إلا في ظروف خاصة جدا يكون الشعب مهيئا فيها للانتفاض أو في حالة انتفاض- إلا للمزيد من استبعاد السياسة.

وتجربة الإسلاميين المصريين في انقلاب 1952 وكانوا أهم عنصر فاعل مشارك فيه واضحة فيما أفضت إليه من استبعاد مزيد للسياسة وللإسلاميين، وتكرر الأمر فيما يشبه إعادة التاريخ لنفسه لدى الجار السوداني حيث كرر الإسلاميون نفس التجربة مفجرين آمالا خلبا حول المشروع الإسلامي الحضاري، ولم يمض الأمر بعيدا بعد انقلابهم على الديمقراطية أن أفضى الملك إلى غايته في الانفراد حسب التعبير الخلدوني، فانقلب بعضهم على بعض وبلغ التكايد حد اتهام رأس المشروع ومنظّره بالتشجيع على التمرد وتشقيق البلد، ثأرا مما نقمه من تلاميذه من خيانة له.

وتجربة أهل الأيديولوجيات الأخرى مع الانقلابات لا تختلف عن تجربة الإسلاميين فالسنن لا تحابي أحدا، فلكم سجن بل سحق رفاق على يد رفاقهم، فجرثوم القوة إذا حل محل السياسة لا حدود لمنطقه المتوحش. فهل يبقى من طريق آخر للسياسة؟ هو بالضرورة سياسي، فالحق لا ينصر إلا بالحق.

"
مع أجواء الانسداد السائدة، والحضور الطاغي لصوت القوة صاحبة الكلمة العليا في كل مجال بديلا عن السياسي والإعلامي والمفكر وعن المجتمع كله، يبقى اتجاه التطور في العالم لصالح انتفاضات الشعوب
"
6- ومع أجواء الانسداد السائدة، والحضور الطاغي لصوت القوة صاحبة الكلمة العليا في كل مجال، بديلا عن السياسي والإعلامي والمفكر وعن المجتمع كله، وإفراغ السياسة وتمحّها نفاقا ودجلا ومثله، يبقى اتجاه التطور في العالم لصالح انتفاضات الشعوب، وذلك بأثر ثورة الاتصال واندياح المعلومات، فلم يعد لفرعون زمننا التبجح مع سلفه "ما أريكم إلا ما أرى" (سورة غافر) فأخذت جدران الرقابة والتحكم في إرادة الشعوب تتداعى، بعدما شهده نموذج التحكم عبر الإعلام والاقتصاد والبوليس من انهيارات خلال العشريتين المنصرمتين، فكان انهيار مشروع إمبراطورية الإلحاد والحزب الواحد، فعلا صوت دولة العولمة القارونية مستقبلا وحيدا للبشرية!

ولم يمض بعيدا حتى توالت أنباء وكوارث انهياراته في منطقة القلب، فكيف حال الأطراف؟ من سينجدها؟ وهو ما سيوفر للأمم المقهورة مثل أمة العرب والمسلمين فرصا غير قليلة للانتفاض وفرض إرادتها على حكامها وحماتهم، فلا يبقى أمام أذكيائهم غير التصالح معها، أما الأغبياء -والدكتاتوريات عادة غبية يطمس أبصارها الغرور وتسكرها القوة فتفقد الإحساس بما يعتمل تحت أقدامها ويتشكل من براكين- فتعصف بهم رياح التغيير.

قال تعالى "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا" (سورة الأعراف).

7- غير أن أمتنا كثيرا ما أضاعت عنها فرصا لاكتساب السياسة سواء برهانها على الحلول السريعة النقيضة للسياسة كالانقلاب والعمل العنيف أو من طريق إضفاء الشرعية على حكم العسكر والبوليس، طمعا في اكتساب السياسة من طريقه وهو من قبيل طلب الشيء من غير مأتاه بل من نقيضه، من مثل ما حصل في الجزائر أو في السودان، وأفضى إلى كوارث، شأن معظم تجارب المشاركة، لم تثبت واحدة أنها نقلت طبيعة حكم من شرعية القوة إلى شرعية السياسة فكانت بالنتيجة محض مشاركة في مغنم انجرت إليه ولا علاقة له بتحول ديمقراطي. الاستبداد مطلوب تغييره لا إضفاء الشرعية عليه بالمشاركة في فتاته.

8- ومع فشو الصحوة الإسلامية عودا بالمجتمع إلى أصل الإسلام ثقافة للمجتمع، وتراجع الأيديولوجيات التي قدمت نفسها بديلا، فأعاد بعض أصحابها تأويلها بما يتواءم مع هذا التطور، تعددت تبعا لطبيعة الإسلام المفتوحة الاجتهادات في فهم الإسلام وبالخصوص ما يتعلق منه بشؤون الدنيا كالاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية وأساليب تغيير المنكر، والتمييز بينها وبين قواطع الدين العقدية والشعائرية والخلقية ومسائل الحرام والحلال التي أجمع حولها المسلمون.

وبحسب تعدد الاجتهادات تعددت التجمعات الإسلامية على غرار ما كان في تاريخ حضارتنا، وليس في ذلك ضير لولا استمرار الإعاقة المزدوجة والمتمثلة أولا في عجز الكثير عن التمييز بين ما هو ثوابت الدين وهي محدودة وبين مجالات المباح أي الحرية وهي الأوسع والأصل.

وأخطر من هذا العجز الإعاقة الموروثة والمتمثلة في الوقوف بمبدأ الشورى العظيم الذي يعني أن في الإسلام سياسة وأن الله خولها للناس في نطاق شرائعه (وأمرهم شورى بينهم) الوقوف به، دون تحويله إلى نظام كفيل بإدارة الاختلاف في المجتمع سياسيا أي سلميا وليس مجرد موعظة وبيعة شكلية غلافا للقوة. وهو ما قصّر عمر الخلافة الراشدة حيث أدير الحكم وتبودل بالسياسة لا بالقوة، وما لبث أن انقلب إلى ملك عضوض.

"
بحسب تعدد الاجتهادات تعددت التجمعات الإسلامية على غرار ما كان في تاريخ حضارتنا، وليس في ذلك ضير لولا استمرار الإعاقة المزدوجة والمتمثلة أولا في عجز الكثير عن التمييز بين ما هو ثوابت الدين وهي محدودة وبين مجالات المباح وهي الأوسع والأصل
"
وانتظرت البشرية الفكر الغربي الحديث ليطور مبدأ الشورى إلى آليات لإدارة الاختلاف حملت اسم الديمقراطية، وهي ليست دينا حتى تقابل بالإسلام وإنما هي آليات لإدارة الاختلاف سلميا. أعجب ما في الأمر أن الإسلاميين وهم من أكثر ضحايا الاستبداد مما يتوقع منهم أن يكونوا أسعد الناس بالديمقراطية والأكثر حرصا عليها، لا يزال بعضهم –متناقصا- يجادل فيها، أو في بعض مقتضياتها مثل التعددية بلا إقصاء ومثل اعتماد مبدأ المواطنة والمساواة أساسا للحقوق والواجبات والاحتكام فيما يراد سنه من سياسات وقوانين لمؤسسات منتخبة، لو تم تسليم كل الأطراف المتنازعة في الجزائر وفي تونس ومصر والسودان والصومال وأفغانستان لمثل هذه الآليات ما تعرضت هذه وأمثالها ولا تزال للكوارث.

إن السياسة لن تعود لتحل محل القوة دون ترسخ مثل هذه الثقافة وهذه الآليات ودون عمل سلمي شعبي جبهوي منظم يفرض الحرية والعود للسياسة.

والأعجب من ذلك ونتيجة لما سبق استسهال انتهاك حرمات عظّمها الله وتوعّد بأشد الوعيد منتهكها أعني حرمة دم الإنسان مسلما وغير مسلم.

ما أدري بم سيجيب مستحلو الدماء من جماعة الشيخ عويس وأمثاله في الصومال وعلى امتداد أرض الإسلام والعالم، ربهم، وهو يتلو عليهم الآية المزلزلة -وهي من آخر ما نزل من كتاب الله "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما" (سورة النساء).

وقال النبي عليه السلام "كل ذنب عسى الله يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة آخذا برأسه فيقول يا رب سل هذا لم قتلني" ابن كثير في التفسير. وفي حديث البخاري "لا يزال المرء في عافية من دينه حتى يقع في دم امرئ مسلم".

Friday, May 29, 2009

تراجع المسلمين فى مسار السياسة والحكم وإدارة المال

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

29 مايو 2009 06:50:35 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 2

تراجع المسلمين فى مسار السياسة والحكم وإدارة المال

هذا واحد من مسارات الحضارة الست التى لا يمكن تجاهلها بأى حال. فلو اشتهر أرسطو فى تاريخ الفكر السياسى بشىء فهو مقولته الشهيرة: إن علم السياسة هو علم السيادة وهو علم السعادة.

ويقصد بذلك أن أمور الحكم وإدارة شئون الدولة هو العلم السيد على جميع العلوم الأخرى وهو المفضى إلى سعادة البشر الجماعية إن كانت شئون الحكم فى أيد رشيدة.

فلو تخيلنا مجتمعا فيه مئات العباقرة والمبدعين لكن يحكمه هتلر أو موسيلينى، إذن ما الفائدة؟

إن علم السياسة هو علم التوفيق «وليس المفاضلة أوالاختيار بالضرورة» بين الضرورات المتعارضة، فالاستقرار ضرورة، ولكن الديمقراطية ضرورة أيضا والمهارة كل المهارة أن توفق بينهما دون التضحية بأى منهما.

وقد تراضى الفلاسفة ودارسو العلوم السياسية على عدة حقائق من بينها أن هناك مجتمعات كانت أكثر حظا من مجتمعات أخرى فى إدراك أهمية الديمقراطية كاختراع «أى ابتكار من عدم» أو اكتشاف «أى كفكرة إنسانية موجودة تاريخيا لكنها احتاجت للاجتهاد البشرى كى يتم التنظير لها وبناء المؤسسات اللازمة لترجمتها إلى واقع معاش».

وسواء كانت اختراعا أو اكتشافا فإن الحضارة الإسلامية احتاجت فترة طويلة للغاية كى تتفاعل مع هذا الاختراع/الابتكار فى حين أنها كانت أكثر استجابة للتفاعل مع اختراعات واكتشافات أخرى.

فلو تتبعنا تاريخ الإنجازات والاختراعات الإنسانية سواء بالملاحظة المباشرة أو باستقراء ما تكتبه دوائر المعارف فسنجد أن البشرية عرفت ما لا يقل عن 16 مليون اختراع واكتشاف بشرى على مدى خمسة آلاف سنة هى عمر الحضارة منذ أن عرف الإنسان الكتابة وفقا لموسوعة المعارف البريطانية.

لكننا لو ربطنا بين الاختراعات وقيمتها المضافة، أى قدرتها على أن تؤثر فى عدد كبير من البشر فإننا يمكن أن نحصر أعظمها وأبلغها تأثيرا فى سبعة اختراعات كبرى.

فهناك أولا الكهرباء بما سمحت به من إنجازين مهمين وهما: المزيد من سيطرة الإنسان على الطبيعة، وثانيا مضاعفة مساحة الزمن المتاح للبشر، فلولا الكهرباء لنامت المدن كما القرى فى الماضى بعد حلول الظلام مباشرة.

وثانى هذه الاختراعات العظمى هو دورات المياه فى البيوت التى جعلت الانتقال من البداوة والريف إلى المدينة ممكنا.

وثالث الاختراعات الكبرى هو الطباعة والتى نجحت فى أن تضاعف سرعة انتقال المعرفة. فلولا الطباعة لما كنا اكتشفنا أو عرفنا الاختراعات الأخرى أو ربما كنا عرفناها فى أزمنة لاحقة.

ورابع الاختراعات الكبرى هو الرياضيات بفروعها المختلفة. فالرياضيات هى أساس العلم الحديث بل هى الفارقة فى نقل المعارف من سيطرة الفلسفة والجدل النظرى والمعيارى، أى الذى يؤكد على ما ينبغى أن يكون، والمماحكات اللفظية التى تنطوى على رؤى ذاتية وبين العلوم سواء الطبيعية أو الاجتماعية.

وخامس هذه الاختراعات الكبرى هو النقود التى سهلت التفاعلات الإنسانية على نحو ما نستشعر جميعا. فلولا النقود، كوسيط للتبادل وكمخزن للقيمة، لما أمكننا الحديث عن تجارة وتبادل خدمات ومنافع بين البشر.

وسادس الاختراعات الكبرى هو الجامعات وما يرتبط بها من مراكز البحث العلمى. فلولا الجامعات ومراكز البحث العلمى لما أمكن أن تتضاعف المعرفة الإنسانية مرة كل ثلاثين سنة، على نحو ما نعيشه الآن.

وهو ما يبدو منطقيا مع حقيقة أن 90 بالمائة من العلماء الذين عرفتهم الإنسانية لا يزالون أحياء فكل الأسماء العظيمة من منتجى المعرفة فى العالم أجمع منذ سقراط وأفلاطون وحتى مصطفى مشرفة وجمال حمدان وكل من تركوا هذه الدنيا من علماء لا يشكلون أكثر من 10 بالمائة لأن العلم والبحث والاختراع والابتكار كلها أصبحت مهنة مستقلة بذاتها لا يمارسها العالم أو المخترع فى وقت فراغه.

وسابع هذه الاختراعات الكبرى وأقدمها وأصعبها هو الديمقراطية. فلولاها لما استفدنا من كل ما سبق وغيرها من اختراعات وإنما ظلت جميعها فى يد الحاكم الديكتاتور.

نعم كان من الوارد جدا أن توجد عشرات الصحف دون ديمقراطية، ولكن كلها تسبح بحمد الحاكم وتشكر فضله على ما أتاحه للبشر من نعمة الحياة. نعم كانت ستوجد جامعات ونقود واختراعات كهربائية، بدون الديمقراطية، لكن كان سيغيب أمن الناس على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وحقهم فى الاختيار.

فالديمقراطية بحق اختراع عبقرى يقوم على قهر القهر، أى وضع قيود قهرية على الحاكم المستبد. إنها فى أبسط تعريفاتها: ضمان تعدد مراكز صنع القرار فى المجتمع، فلا يوجد من يأمر وعلى الباقى السمع والطاعة.

كما أنها تضمن أن الحكومة فى حالة عمل دائم من أجل رفع المعاناة عن المواطنين. ومن مقولات أمارتيا سن، الاقتصادى الشهير، الخالدة «إن المجاعات، رغما عن أنها فى الأصل ظواهر طبيعية.

تظهر فى باكستان غير الديمقراطية ولا تظهر فى الهند الديمقراطية؛» لأن الحكومة التى تعلم أنها ستتحول إلى «محكوم» عليها فى يوم الانتخابات إما بالاستمرار، إذا فازت فى الانتخابات، أو بالتحول إلى المعارضة، إذا خسرت، لا يمكن أن تتهاون فى التزامها تجاه فئة مهمة من فئات شعبها.

ضع كل الاختراعات والابتكارات السابقة فى خلاط الحضارة، إن جاز التعبير، لتكتشف لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا. لقد شهدت مجتمعاتنا ملامح التقدم المظهرى والتخلف الهيكلى ــ كما يقول سمير أمين.

فلدينا إنفاق شديد على الدروس الخصوصية وهذا ليس إنفاقا على العلم ومن أجل العلم وإنما هى على الشهادات ومن أجل الشهادات كما يقول أحمد زويل، ولدينا اهتمام بتسجيل المواقف أكثر من اهتمامنا بإيجاد حلول عملية للمشكلات ــ كما يقول فؤاد زكريا.

ولدينا تحديث مادى دون ديمقراطية، وعلمنة بلا احترام أصيل لقيمة العلم، وتعليم بلا تفكير نقدى أو بناء مهارات، وانتقال إلى المدينة بلا تمدن حقيقى، وتحول للرأسمالية بلا احترام لأخلاقياتها ــ كما يقول على مزروعى.

إن المجتمع الحديث هو مجتمع يعرف قيمة هذه الاختراعات الكبرى جميعها مجتمعة متفاعلة ويكون طلبه عليها غير مرن ــ كما يقول الاقتصاديون ــ مثل طلب مدمن السجائر على السجائر.

فمهما ارتفعت تكلفة الحصول على التعليم أو على الحقوق السياسية فإن العارف بقيمتها مستعد للإنفاق ببذخ من وقته لو دخل السجن ومن عمره لو مات مناضلا؛ فهى بالنسبة له أقرب إلى الماء والهواء من حيث الأهمية. ألم يفعلها نيلسون مانديللا؟

أما مجتمعات ما قبل الحداثة، أى المجتمعات المتخلفة بقول أدق، فإنها قد تمتلك أفضل المطابع ولكنها لا تمتلك حرية الفكر، وقد يطرح عليها حزبها الحاكم أفكارا تحت شعار الإصلاح السياسى ولكنها فى النهاية أقرب إلى التغيير التكيفى «مثل تهدئة السيارة عند النزول فى مطب) منها إلى التطوير البنيوى (أى تغيير بنية العلاقة بين المجتمع والدولة وبين مؤسسات الدولة بعضها البعض».

وقد يكون فيها حرية رأى متاحة، لكنها تبقى بلا فاعلية، ويبقى المواطن مفعولا به ومفعولا لأجله لم تصبه من الحداثة واختراعاتها إلا المظاهر الخادعة سواء فى شكل تليفون محمول أو دش على أسطح المنازل.

لكن دهاء التاريخ والنتائج غير المقصودة لمظاهر الحداثة هذه يمكن أن تنتج على المدى الطويل إدراكا لأهمية ومحورية «خلطة» الاختراعات التى أنتجتها وحاجتنا لأن نمتلك مثلها.

لن يتقدم أى مجتمع إلا إذا أدرك أن أهمية الديمقراطية الحقيقية والجامعة المتميزة والبحث العلمى الجاد لا تقل عن أهمية الكهرباء والمياه والمجارى.

إن طابور الخبز مهم، وطابور المواصلات مهم، وطابور الخزينة مهم، لكن طابور الانتخابات هو الطابور الأهم لأنه يمكن أن يجعلك تتجنب كل الطوابير الأخرى باختيار حكومة تضعك كمواطن فى قمة أولوياتها.

إن نكوص المسلمين عن الابتكار وقبول ابتكارات الآخرين فى عالم السياسة والحكم وإدارة المال أسهما بشدة فى تراجع الحضارة الإسلامية إجمالا.

بيد أن النهوض كان سريعا للغاية فى الكثير من المجتمعات المسلمة وغير المسلمة المعاصرة حينما تولى الحكم فيها قيادات عرفت أهمية هذه الخلطة وابتكرت «مؤسسات» الحكم الديمقراطى الأهم والتى سيناقشها مقال الأسبوع القادم بإذن الله.

Friday, May 22, 2009

تراجع المسلمين فى مسار النظر والفكر والتطور الثقافى

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

22 مايو 2009 08:18:36 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 2

تراجع المسلمين فى مسار النظر والفكر والتطور الثقافى

انتهى مقال الأسبوع الماضى باستنتاج عام ارتبط بتراجع المسلمين فى أعمدة التحضر ومسارات التطور الكبرى للحضارات والأمم. فوفقا لبعض الموسوعات التاريخية فقد شهد آخر ألف عام صعود وانهيار 140حضارة ودولة كبرى لأنها لم تستطع أن تطور استجابات فعالة للتحديات التى واجهتها فى مقابل حضارات وأمم أخرى كانت أنجح منها؛ فانزوى الضعيف وافترسه القوى لأن الأقوى يملى شروطه على الأضعف بحكم طبيعة الأشياء. وللتذكرة فمسارات التطور الكبرى لأى حضارة هي: مسار النظر والفكر والتطور الثقافى، ومسار سياسة الحكم والمال وإدارة الدولة، ومسار الثروة والإنتاج والتراكم الرأسمالى، ومسار العلم والتكنولوجيا والقدرة على الابتكار، ومسار الحرب والسلاح وإدارة الصراعات، ومسار القيم والأخلاق والمبادئ. وقد يكون من المفيد أن نلقى الضوء على كل واحد من هذه المسارات.

وللمتابع الجيد لمقالات الأسابيع الثلاثة السابقة فقد كانت الصورة أحادية بالتركيز فقط على تراجع المسلمين دون أن تعطى ما يكفى من الاهتمام لما كانت عليه الحضارة العالمية الأخرى التى كانت تنافسنا منذ البداية وهى الحضارة الغربية. والتركيز على الحضارة الغربية، دون غيرها من حضارات الشرق مثلا، لأن هذه الأخيرة مثلت حضارات متقوقعة غير طموحة لتصدير فكرها وبسط هيمنتها على «الآخر.» وحتى يكون الحديث مركزا سنأخذ من مسار التنظير والتفكير والتطور الثقافى فكرتين اثنتين كانتا، مع غيرهما، من أسباب تقدم وتفوق المسلمين على الغرب لمدة سبعة قرون ثم أدى عدم تطورهما أو تطويرهما لأن تكونا سببين فى تراجعهم وتقدم غيرهم عليهم. وهاتان الفكرتان هما: التسامح الدينى للمسلمين فى مقابل العلمانية الغربية، وقواعد العدالة غير المدونة عند المسلمين فى مواجهة العدالة القانونية المنضبطة عند الغرب.

أولا، بشأن التسامح الدينى، فقد كان غير المسلم فى المجتمع المسلم يحيا حياة يجمع فيها بين عدد من الحقوق التى ما كان لأى مخالف فى الدين أن يتمتع بها فى ذلك الوقت. فقبل الإسلام، ما عرفت البشرية قط، فكرة أن يحيا امرؤ جهارا على دين يخالف دين من يحكمه. فالدين كان جزءا من الولاء للنظام السياسى. أما الإسلام فقد جاء للبشرية بحرية الدين (ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وكذا فى أكثر من مائة آية من آى القرآن العظيم. وهو ما وعاه وطبقه الكثير من الخلفاء المسلمين مثل وصية على بن أبى طالب لواليه على مصر مالك الأشتر بقوله: «ولا تكونن سبعا ضاريا، فهم إما أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الخلق». وهكذا ضمن هذا التسامح أن تتسع دائرة الـ«نحن» التى تشمل المسلمين وغير المسلمين فى إطار الحضارة الإسلامية فى مواجهة دائرة الـ«هم» من أتباع الحضارات الأخرى. ومع ذلك ظل غير المسلمين، فى كثير من العهود الإسلامية، يعلمون أنهم ليسوا على قدم المساواة القانونية والسياسية مع نظرائهم من المسلمين فهم فى النهاية أهل الذمة وليسوا مواطنين كاملى المواطنة بالذات فيما يتعلق بحقوقهم السياسية حتى وإن عاشوا أحيانا عصورا ذهبية يذكرونها بكل الخير.

وقد تفوق الأوروبيون والأمريكيون على المسلمين فى سؤال التسامح تدريجيا بدءا من منتصف القرن السابع عشر بسبب الحروب الكثيرة التى عانوها باسم الدين. فإذا كانت هناك مساواة عامة عند المسلمين إلا فيما يتعلق بالحقوق السياسية مثلا، فقد وصل الغربيون إلى ما هو أكثر تسامحا من ذلك بأن تبنوا الليبرالية التى لا تهتم بأن تسأل الإنسان عن دينه من الأصل إمعانا فى المساواة القانونية والتسامح السياسى. ورغما عن أن الغرب يحتاج إلى سنوات كى يتراجع عما أحدثه شرخ 11 سبتمبر فى المجتمعات الغربية، إلا أن جذور التسامح الدينى فى المجتمعات الغربية لم تزل راسخة. ومن هنا فإن عددا من الفقهاء والمفكرين المسلمين المعاصرين يحاولون أن يمدوا خط التطور الفكرى على استقامته رافعين شعار: «مواطنين لا ذميين» لكن تحدى التسامح الدينى فى مجتمعاتنا لم يزل أعمق كثيرا مما نطمئن إليه.

وقد تفوق الأمريكيون على الأوروبيين مرة أخرى فيما يتعلق بمساحة التسامح الدينى والسياسى فطبقوا صيغة علمانية أكثر ليبرالية من الصيغة العلمانية الأوروبية. فقد نص التعديل الأول للدستور الأمريكى فضلا عن عشرات الأحكام القضائية سواء من المحكمة الدستورية أو غيرها من المحاكم الفيدرالية على مبدأين هامين أصبحا بمرور الوقت الأساس الذى تقوم عليه الليبرالية: فأولا لا تتدخل الدولة لتدعم دينا على حساب دين آخر، وثانيا لا تمنع الدولة أيا من مواطنيها ممارسة شعائر دينهم فرادى أو جماعات. وهكذا اتسعت دائرة الـ«نحن» لتشمل مبدعين مسحيين، ويهودا، ومسلمين، ولا دينين، على قدم المساواة فى مجتمع واحد. وهذه ليست دعوة لتبنى النمط الأمريكى ولكنها ملاحظة تستحق التأمل بأن المجتمعات لا تكون أكثر تقدما وهى أقل تسامحا.

وثانيا، تأتى فكرة العدالة بمعنييها القانونى والاجتماعى. فقد تفوق الإسلام على جميع الأديان والنظم السابقة عليه بأن جعل شريعته الشريفة فوق الجميع حاكمين ومحكومين كما أعطى لسلطة القضاء الكثير من المكانة والهيبة اللتين جعلتا منها أداة هامة لإقرار الحقوق والواجبات فى المجتمع. وهو ما جعل القاضى سيف الشرع المصلت على الجميع، بيد أن مدى قدرة القاضى على أن يقوم بوظيفته تلك كانت محفوفة بعدة مخاطر. فأولا وجود مذاهب فقهية متعددة جعل الجريمة الواحدة يمكن أن يكون لها عدة عقوبات وفقا للمذهب الفقهى، وثانيا غياب القانون المكتوب جعل بعض الخلفاء والولاة الذين فى قلوبهم مرض يطمعون فى أن يلووا أعناق الأقوال والاجتهادات الفقهية كى تخدم مصالحهم، فيضيق النص ويتسع مع موازين القوى فى المجتمع. وهناك ثالثا فكرة القاضى الفرد الذى يقضى بلا مشورة أو استئناف أو نقض. فهو قاض واحد يسمع من المدعى والمدعى عليه، فيقضى بينهما ولا مجال للنقض أو الاستئناف.

وكان هذا النظام، رغما عما يبدو فيه من عيوب، أفضل كثيرا من محاكم القرون الوسطى فى أوروبا حيث نظير كل هذه العيوب ومعها ما هو أكثر من ذلك من سيطرة بابوات الكنيسة وأمراء الإقطاع على المحاكم.

ولكن عصر النهضة فى أوروبا شهد تطورا ضخما فى مفهوم القضاء بأن انفصل ابتداء عن القضاء الكهنوتى وأصبح مكتوبا فى نصوص يقوم بتشريعها ممثلو الشعب بل وأصبحت المحكمة، فى القضايا الهامة، تتكون من ثلاثة قضاة على الأقل حتى يتشاوروا ويذكر بعضهم بعضا. بل أصبح حتما لكل متقاض أن يكون له محام لأن بعض الناس ألحن من بعض، كما يقول رسولنا الكريم (ص)، فضلا عن أن التفاوت الطبقى يمكن بعضهم من أن يوكل محاميا والبعض الآخر يظلون على جهلهم بالقانون. وهو ما جعل رفاعة الطهطاوى يقول «إن النظام القضائى الفرنسى أكثر عدلا، وبالتالى أكثر التزاما بروح الإسلام، من نظام المحاكم الشرعية، حيث القاضى المنفرد والمذاهب الفقهية المتعددة، الذى كان سائدا فى المجتمعات الإسلامية». بل إن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة ذهبوا إلى ما هو أكثر من ذلك، فقد جعلوا لكل ولاية قانونها المكتوب والذى يتناسب، من وجهة نظرهم، مع ظروف كل مجتمع ومدى تطوره الفكرى والاجتماعى والسياسى.

والأمر لم يكن بعيدا عن العدالة الاجتماعية أيضا، فالإسلام أعطى للفقراء حقوقهم بغض النظر عن دياناتهم ماداموا يعيشون متكافلين. وقد أخذ الغرب فترات طويلة من الصراع الطبقى والكساد الرأسمالى حتى يدرك أهمية أن تتخلى الدولة عن سلبيتها تجاه معاناة الفئات الأفقر والأضعف. وهو جوهر ما نسميه دولة الرفاهة التى تبنتها العديد من الدول الغربية وعلى رأسها الدول الإسكندنافية وكندا وفرنسا وبقية دول الغرب على تفاوت واضح فى مدى التزامها بمبادئ التكافل الاجتماعى.

إذن من يصل إلى فكرة أعمق وأفضل، يفوز بعوائدها أسرع وأكثر ممن يتلكأ فى الاستفادة منها فما بالنا بمن يرفض أفكار العالم الحديث بالكلية. وهو ما كنا أقرب إليه فى مسارات التحضر الكبرى.

Friday, May 15, 2009

محاولة لفهم محنة الحاضر.. كيف انتهينا إلى ما نحن فيه؟

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

15 مايو 2009 05:31:34 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 1

محاولة لفهم محنة الحاضر.. كيف انتهينا إلى ما نحن فيه؟

فى مقالين سابقين، كان هناك استعراض لمحطات تاريخية خمس كانت بمثابة نزيفا فى الجسد الحضارى للمسلمين بدءا بتراجع الخلافة وسيادة الملك العضوض (تراجع عمر وسيادة معاوية)، وثانيا تراجع العالم الناقد لصالح عالم التقية (تراجع ابن حنبل وتقدم ابن معين)، وثالثا تراجع العقل وازدهار النقل (تراجع ابن رشد وازدهار الغزالى)، ورابعا تراجع شرعية العدل، لصالح شرعية العسكر من الأيوبيين والمماليك، وما ارتبط بذلك، خامسا، من تراجع الابتكارات والكشوف العلمية والتحول إلى مجتمع الدعة والسكون. وكان أمام المسلمين فرصة تاريخية لعلاج الآثار السلبية لهذه الأمراض مع دولة خلافة جديدة يمكن أن تجدد شباب هذه الحضارة لكنها للأسف أقدمت على اختيارات ضاعفت من المشاكل ونكأت جروحا جديدة.

سادسا: العزلة العثمانية والقابلية للاستعمار

ما لبثت أن نهضت الدولة العثمانية، التى جاءت فى أعقاب دولة المماليك، واستفادت من الأراضى التى ضمتها إليها ولكنها لم تفدها كثيرا لأسباب ثلاثة: أولا لقد خلقت الدولة العثمانية حالة من المركزية المقصودة أدت إلى هشاشة الهوامش (أى الولايات) وقوة المركز (أى العاصمة)، مثلما كان عليه الحال فى مصر التى فقدت العديد من كبار صناعها ومهرة مبدعيها وعلمائها، الذين أجبروا على السفر إلى الأستانة لتعمير المركز على حساب تراجع الهامش. وهو خطأ لم نزل نرتكبه فى حياتنا المعاصرة بأن نجعل مدينة واحدة مهما توسعت مركز الحياة وما دونها يفقد حيويته تباعا، فتضيق البلاد بأهلها. ومن ناحية ثانية تبنى السلاطين والولاة العثمانيون سياسة العزلة عن العالم الخارجى خوفا من أن تقع بلاد المسلمين نهبا للاستعمار والمستعمرين وكأنها بهذا تظن أن ضعف بلاد المسلمين يعنى عدم جاذبيتها للمستعمر، فتوقف المسلمون فعلا عن التفاعل مع الحضارات الغربية وأصبح الوالى يتولى الحكم لمدة ثلاث سنوات لا يهتم خلالها إلا بجباية الضرائب وتصيد أهل الفن والمهارة وإرسالهم للأستانة، ولو صدقنا ابن إياس، المؤرخ الذى لم يسلم من انتقاد، فقدت اختفت فى مصر 50 صنعة بسبب النقل القسرى لعلمائها وحرفييها إلى الأستانة.

وحين غزا الفرنسيون مصر فى آخر القرن الثامن عشر واجه المصريون ومعهم بقايا المماليك عدوا بدا وكأنه قادم من الفضاء يستخدم أسلحة شديدة التعقيد بمعايير تلك الفترة فضلا عن أدوات علمية متقدمة مثل مطبعتين إحداهما بالعربية. وقد كانت الحملة صدمة حضارية للشرق كله، وفضيحة مدوية لأساليب الدولة العثمانية فى إدارة شئون ولاياتها. فقد كانت الحملة تضم نحو 175 عالما فى الرياضيات وعلم الحيوان والكمياء والفلك والجغرافيا وهندسة المناجم والهندسة المعمارية والرسم والنحت وموسيقيين وفنيى طباعة ومتخصصين فى المتفجرات وأطباء وأدباء لم يكن للأسف لهم نظير فى أى من هذه المجالات فى بلد كان أهله يذهلون العالم بمعابدهم وتماثيلهم الشاهدة على علمهم وإتقانهم. كما أتت الحملة بمئات الكتب فى التاريخ الطبيعى والفيزياء ومعمل للكمياء، حتى إن مؤرخ ذلك الزمن، الجبرتى، يشير إلى أن المصريين كانوا يعتقدون أن الفرنسيين يعملون سحرا أو يسخِّرون الجن بسبب ما كانوا يقومون به من تجارب كميائية ينتج عنها صوت مرتفع أو دخان كثيف. ولم تجد محاولة محمد على لإيقاظ مصر ومحيطها المباشر كثيرا فقد تحالفت الدول الغربية، بإذن من الدولة العثمانية نفسها، فى القضاء على تجربته الوليدة.

وبدأ الغرب يتداعى إلى بلدان العرب والمسلمين كما تتداعى الأكلة إلى مجتمعات أصبحت قابلة للاستعمار من أى دولة من دول الغرب أيا ما كان مستواها الثقافى والعلمى كما قال مالك بن نبى.

والدرس المستفاد هنا أن توقف أى مجتمع عن التفاعل مع المجتمعات المحيطة به يعنى التكلس ومن ثم التراجع والتخلف. وهو مرض أصاب الدولة العثمانية فى مقتل لكن فلاسفة وعلماء الغرب كانوا أكثر وعيا واستعدادا للانفتاح والتعلم من الآخرين. فكان المستعمرون سباقين للاستفادة من منجزات ألد أعدائهم، ولم يزالوا فاعلين. فلو اكتشف الدكتور الظواهرى، بصفته طبيبا، علاجا لمرض الإيدز مثلا لكانت الشركات الأمريكية أول من ستستفيد منه. ولكننا للأسف تعلمنا هذا الدرس متأخرا.

وثالث أخطر ما فعلته الدولة العثمانية، بالذات فى آخر عهدها، أنها تخلت عن أعظم ما كان يميزها فى بداية عهدها وهو أنها لم تكن دولة رخوة تضع القوانين ولا تنفذها بسبب الفساد والمحسوبية، مثلما تعيش الكثير من مجتمعات العرب الآن. فعلى العكس من سليمان القانونى الذى وضع القواعد الإدارية للدولة العثمانية والتزم بها طوال حكمه لمدة 48 عاما، فإن سلاطين آل عثمان اللاحقين عليه فقدوا حتى هذه المزية فى الوقت الذى انتشر فى الغرب حكم القانون والدستور بما يضمن تعدد مراكز صنع القرار وتمثيل فئات المجتمع بما أفضى إلى الديمقراطية الليبرالية كما يعرفونها اليوم.

وأضاع السلطان عبدالحميد فى نهاية القرن التاسع عشر فرصة عظيمة كى تدخل الدولة العثمانية عصر الديمقراطية الحقة حينما تراجع عن الدستور الذى أمر بوضعه وكان حقيقة نقطة بداية مبشرة حيث أخذ الدستور العثمانى بفكرة الفصل بين السلطات وأوجد إلى جانب المحاكم الشرعية المحاكم المدنية التى تختص بالقوانين الوضعية، وكفل الدستور صيانة القضاء من أى نوع من أنواع التدخل فى شئونه، وأوجد سلطة تشريعية ليست ذات اختصاصات كاملة لكنها على الأقل كانت موجودة.

وقد أجريت انتخابات عامة لأول مرة فى التاريخ العثمانى، وأسفرت عن تمثيل المسلمين فى المجلس التشريعى الأدنى بـ71 مقعدا، والمسيحيين بـ44 مقعدا، و4 مقاعد لليهود. وبدأ البرلمان عمله وناقش قانون الصحافة، وقانون الانتخابات، وقانون عدم مركزية الحكم، وإقرار الموازنة العامة للحكومة، وكاد الشرق أن يصحو من غفلته، لكن السلطان عبدالحميد لم يطق الديمقراطية لأنها لم تكن خاصية لصيقة به وإنما كانت ديكورا شكليا كما هى فى كثير من مجتمعاتنا الآن. ولم تطل الحياة النيابية كثيرا، حيث لم تزد على 11 شهرا من تاريخ انعقاده، أصدر بعدها السلطان عبدالحميد قرارا بتعطيل مجلسى البرلمان. واستمر البرلمان معطلا حتى انتهى دوره لأن الدولة العثمانية نفسها كانت قد انتهت فى ظل قيادات قصيرة النظر ضيقة الأفق، مهما حسنت نواياها.

وهكذا وأد السلطان عبدالحميد ما كان يمكن أن يكون أعظم إنجازات الدولة العثمانية فى آخر 50 سنة من حياتها.

وهكذا سلَّمت الدولة العثمانية المجتمعات التى كانت تحت سيطرتها للاستعمار الغربى الذى أسهم بدوره فى تشويه الهوية الحضارية للمسلمين، ولكن ما كان أخطر هو نوعية القيادات التى تولت الحكم فى مرحلة ما بعد الاستقلال.

سابعا: أخطاء مرحلة ما بعد الاستقلال

هذه المحطة السابعة هى مسئولية الجيل السابق على الأحياء منا مباشرة، لأنهم استبدلوا استبداد الاستعمار الأجنبى باستبداد محلى قائم على تحالف السلطة والثروة والإكراه عادة ما يأخذ شكل حزب حاكم (السلطة) يرفع شعارات اشتراكية أو شبه اشتراكية (الثروة) بالتراضى مع الجيش والبوليس (الإكراه). وباسم الشعب: تم تأميم الدين. فبدلا من العلمانية الليبرالية التى تعنى الفصل المؤسسى بين السياسة والدين، أصبح علماء الدين موظفين لا ينطقون إلا بما يوافق توجهات التحالف الحاكم، وباسم الشعب، قضى على الأحزاب أو حاصرها، وباسم الشعب، قتل المجتمع المدنى بالسيطرة الأمنية على مؤسساته، وباسم الشعب، أمم الصحافة أو أفسد القائمين عليها بتوجيههم حيث يخدم مصالح التحالف الحاكم، وباسم الشعب دخل المعارك، فخسر معظمها وتكبد المجتمع أسوأها (خسرت مصر 20 ألف جندى فى حرب سنة 1967 فى حين خسرت إسرائيل 150 جندى)، وباسم الشعب تم تكريس الحدود التى تركها الاستعمار، وحافظت عليها النخب التى تدعى الوحدة والتكامل والقومية؛ فحدثت مفارقة علمنة بلا علم، وتمدن بلا مدنية، وتعليم بلا ابتكار، وتقدم مظهرى وتخلف هيكلى، وسيطرة الأشخاص وتراجع المؤسسات.

وعليه فقد شهدت الحضارة الإسلامية تراجعا شديدا فى مسارات التحضر الستة الكبرى: مسار سياسة الحكم والمال وإدارة الدولة، ومسار الثروة والإنتاج والتراكم الرأسمالى، ومسار العلم والتكنولوجيا والقدرة على الابتكار، ومسار النظر والفكر والتطور الثقافى، ومسار الحرب والسلاح وإدارة الصراعات، ومسار القيم والأخلاق والمبادئ. ولكن هل ستظل مجتمعاتنا على تخلفها هذا؟ أم هناك مخرج من هذا المأزق؟

Friday, May 8, 2009

محاولة لفهم محنة الحاضر.. التراجع الحضارى للمسلمين

أعمده

بقلم:
معتز بالله عبد الفتاح

8 مايو 2009 05:42:19 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 4

محاولة لفهم محنة الحاضر.. التراجع الحضارى للمسلمين

تناول مقال الأسبوع الماضى محطات ثلاث كانت سببا مباشرا فى انحطاط المسلمين حضاريا وهى ــ على سبيل التذكرة ــ: تراجع الخلافة وسيادة الملك العضوض (تراجع عمر وسيادة معاوية).

وثانيا تراجع العالم الناقد لصالح عالم التقية (تراجع ابن حنبل وتقدم ابن معين)، وثالثا تراجع العقل وازدهار النقل (تراجع ابن رشد وازدهار الغزالى). ويقف هذا المقال أمام محطتين أخريين ساهمتا بوضوح فى تراجع مكانة المسلمين لصالح غيرهم.

رابعا تراجع شرعية العدل، لصالح شرعية العسكر فى الفترة نفسها التى ثار فيها الجدل بين الغزالى وابن رشد (القرن الـ12)، كان العالم الإسلامى يواجه خطر الحروب الصليبية وفى أعقابها غزوات التتار. وكلاهما خطر تطلب عسكرة المجتمع بمعنى أن يعيش المسلمون لفترة طويلة من الزمن ــ ستمتد إلى يومنا هذا، مع استثناءات قليلة ــ فى حالة استعداد لمعركة عسكرية قادمة.

ومن هنا كان حكم الأيوبيين ثم المماليك ومن بعدهم العثمانيون للقيام بوظيفتين أساسيتين: منع الفتن الداخلية من جهة وحماية دار الإسلام من الخطر الخارجى من جهة ثانية. فلم يعد العلم الدنيوى والاجتهاد الشرعى إلا تابعين للوظيفة الأساسية وهى وظيفة درء الخطر الخارجى أساسا.

وفى هذه الأحوال يبحث الإنسان عن شرعية العسكرى القوى حتى وإن كان مخطئا جاهلا ظالما فاسدا وليس عن شرعية المدنى الضعيف حتى وإن كان مصيبا عالما عادلا نزيها.

وحديثا قيل: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». فكان المنطق الأسلم هو القبول بما سمى فى الفقه بـ«أمراء الاستيلاء» أو سموا لاحقا بـ«أمراء التغلب» وانتهى الحال ببعض الفقهاء مثل الماوردى والجوينى (القرن الـ12) أن أعطوا لهؤلاء شرعية مستقلة عن شرعية الخليفة لأن سلاطين التغلب ينهضون بما نهض به الخلفاء قبلهم من حفظ الوحدة والدفاع عن دار الإسلام.

وهكذا بدلا من كون شروط الخليفة أو ولى الأمر تجعل منه حاكما عالما مجتهدا عادلا حرا عاقلا قادرا على القيام بالتكاليف الشرعية والاستنباطات الفقهية، حاملا للرأى المفضى إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح والكفاية الجسدية والقدرة على حماية البيضة وجهاد العدو ــ بدلا من كل هذه الشروط، تحول الأمر إلى «أصلح الله من أصبح» أى أصلح الله الحاكم الذى أصبح يحكمنا سواء وجدت فيه هذه الصفات أم لم توجد.

وهو تطور خطير فبدلا من أن يزيد المسلمون من شروطهم فى من يلى أمورهم، أصبحوا يقبلون من يحكمهم بنفس منطق قبولهم لنزول المطر أو غيابه، أو حدوث الزلازل أو امتناعها. أقصى ما يستطيعون هو الدعاء: «اللهم ولِّ أمورنا خيارنا.» وهى نظرة تواكلية ما أتى بها الإسلام ولكن ابتكرها الفقهاء المسلمون فى عصور التخلف التى امتدت طويلا.

خامسا: تراجع الابتكارات والكشوف العلمية والتحول إلى مجتمع الدعة والسكون
لم يكن لسيطرة المماليك على مصر والشام (لمدة 300 سنة تقريبا) أثر سلبى فى تراجع شرعية العدل والعلم لصالح شرعية التغلب والعسكر فقط، وإنما كان لها تأثير سلبى امتد طويلا بشأن تراجع الابتكارات والكشوف العلمية وتطبيقاتها على اعتبار أنهم أهل حرب وقتال، ولم يكونوا أهل علم وتفلسف.

وهو ما جعلهم ينصرفون فى آخر عهدهم إلى ما أسماه ابن خلدون (القرن الـ15) فى تقسيمه الشهير لأطوار الدول ومراحلها بطور الدعة والسكون والذى تميل فيه الدولة إلى الاستكانة والرضا الزائف بما أنجزت والاعتداد بما كان من سابق حضارتها حتى ولو على حساب حاضر تحضرها ومستقبله.

وقد أصاب هذا المرض المسلمين فى الأندلس كذلك فى مراحل متفرقة لكن كان الخطر الغربى ضعيفا لأن ممالك الغرب كانت أضعف قدرة وأكثر فرقة. فانشغلت دولة المماليك فى المشرق العربى كثيرا بجباية الضرائب على الفلاحين والعمال والتجار فى الداخل فضلا عن الجمارك الباهظة المفروضة على تجارة أوروبا إلى الهند فى الخارج.

وكان جل هذه الأموال يستخدم للإنفاق على بذخ الحكام وليس لمصلحة العباد على نمط الآية الكريمة التى تقول: «وبئر معطلة وقصر مشيد»
وهو ما لم يكن بعيدا عما آل إليه حال أمراء دويلات الأندلس فى نهاية القرن الخامس عشر، حيث كانوا أقرب إلى آية نزلت فى وصف اليهود «بأسهم بينهم شديد» يتصارعون فيما بينهم بالاستعانة بأعدائهم على نمط لا يبعدنا كثيرا عمن يتحالفون مع دول الغرب الآن ضد بنى جلدتهم.

وقد تجلى أثر سيادة نمط الدعة والسكون فى عام 1492 وهو العام الذى سقطت فيه غرناطة من المسلمين وهو نفس العام الذى اكتشف فيه الأسبان الأمريكتين. فى العام نفسه تتراجع حضارة وتتقدم حضارة حيث إن المسلمين فقدوا آخر ما امتلكوا لقرون سبعة فى الأندلس وضاعت منهم فرصة اكتشاف نصف الكرة الأرضية الذى أصبح مسيحيا (كاثوليكيا فى أمريكا اللاتينية، بروتستانتيا فى أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلاندا).

وسأستطرد قليلا فى مناقشة كيف أفادت حضارة المسلمين فى تحضر أوروبا ولم ينجح أمراء المسلمين من الاستفادة من علماء المسلمين فى تلك الفترة. فقد كان الحلم الأكبر للأوروبيين أن يتجنبوا الضرائب الباهظة التى كانوا يدفعونها للمماليك نتيجة مرور تجارتهم عبر بلدان العرب آنذاك.

فكان الأمل هو الوصول إلى الهند وجنوب آسيا دون الحاجة لأن يمروا عبر المنطقة العربية فكان الحل البرتغالى هو بالالتفاف حول أفريقيا فيما عرف تاريخيا بطريق رأس الرجاء الصالح، لكن الحل الذى اقترحه الإسبان هو الالتفاف حول الأرض نفسها تطبيقا لنظرية طالما قال بها علماء مسلمون من قبل وهى أن الأرض كروية يمكن الوصول إلى أى جزء منها بالدوران حولها إما شرقا أو غربا، جنوبا أو شمالا.

وهكذا شكل الأمراء المماليك عقبة للغرب احتاجوا أن يتغلبوا عليها، وقدم العلماء المسلمون للغرب مفتاح الحل فى واحدة من أعقد مفارقات التاريخ.

وكأن أمراء المسلمين قدموا للغرب التحدى وقدم علماء المسلمين لهم مفتاح الاستجابة لهذا التحدى، لكن الأمراء المسلمين كانوا مشغولين بمصالحهم الشخصية وخلافاتهم عن السعى للاكتشاف والابتكار والإفادة من جهود هؤلاء العلماء.

وهكذا بنى الإسبان سفنا أكبر لاختبار المقولة التى طالما قال بها علماء مسلمون مثل أبو عبيد الله البكرى أول الجغرافيين المسلمين فى الأندلس والشريف الإدريسى وكذلك المقدسى والبيرونى الذين أكدوا على كروية الأرض، قياسا على الشمس والقمر ومن ثم حتمية اتصالها من جهاتها الأربع بالدوران فى أى اتجاه.

وهكذا نجح كولومبس فى الوصول إلى العالم الجديد ظانا أنه وصل إلى الهند من جهتها الأخرى ويملأ عقله نظرية عربية المنشأ، بخرائط عربية الأصل (وضع معظمها الإدريسى)، مهتديا ببوصلة أتقن استخدامها المسلمون حتى وإن كان أول من اكتشفها الصينيون، ومعه عدد من البحارة العرب من بقايا أهل الأندلس يعينونه على اكتشاف العالم الجديد.

لقد سار الرجل ورفاقه فى الأرض ينظرون كيف بدأ الخلق فكان حقا على الله أن يكافئ المخلص فى سعيه من أى دين كان، فى الوقت الذى كان فيه حكام الممالك يهتمون بالتوافه من الأمور فى حالة من الدعة والسكون يعتمدون على ريع التجارة القادمة من الشرق إلى الغرب، فينتهى بهم الحال أن تتداعى دولتهم أمام أعينهم.

ولو كان هؤلاء بيننا لأقاموا المهرجانات الرياضية والحفلات الفنية وكأنها شغلهم الشاغل وتركوا خيرة علمائنا يرحلون عنا إلى بلاد الغرب يفيدون منهم ويتفاعلون معهم ونحن سعداء أن «الأهلى فى كل حتة عمال يجيب إجوال» أقاله الله من عثرته.
وهكذا بدأنا منذ القرن السادس عشر ندخل عالما جديدا يكون فيه العلم موردا هاما من موارد الدولة وعنصرا أصيلا من عناصر قوتها.

فدولة الجهل والجهال تضيع طاقتها وتبدد إمكاناتها، ودولة العلم والعلماء تستفيد من المبتكرات وتراكم عليها فيتقدم أهل العلم المجتمع والدولة ويتوارى السماسرة والأدعياء الذين يجدون فى الهزل ويهزلون فى الجد. بالعلم ارتفع أقوام وبالجهل انحط أقوام. وكنا للأسف ممن انحطوا جهلا ودعة وسكونا، ولم نزل فاعلين.

إذا نظرنا لهذه العوامل مجتمعة، فضلا عن محطات ثلاث الأخرى سنتناولها فى المقال القادم، يتبين أن بذور التخلف فى مجتمعاتنا لها نصيب عميق الجذور، ولكن الحل لن يتطلب مئات السنين، فنهضة المجتمعات المعاصرة كانت سريعة بفعل عوامل العصر الذى نعيشه، على نحو ما سنرى، المهم أن نفهم أصل الداء وبدائل العلاج، والله الموفق.