Friday, June 26, 2009

حاولوا أن يحيونا فأمتناهم بتجاهلنا إياهم

بقلم: معتز بالله عبد الفتاح

26 يونيو 2009 06:36:11 م بتوقيت القاهرة

رابط المقال الأصلي

للشيخ محمد الغزالى ملاحظة بارعة عن قول الحق سبحانه «اقرأ» كأول كلمة استقبلتها أذن الرسول الكريم (ص) من آخر رسالات السماء. وملاحظة الشيخ هو أن أمر «اقرأ» ورد غير متعد لمفعول. فلم يقل الحق اقرأ ماذا وإنما ركز على المنهج بأن نقرأ باسم ربنا الذى خلق مع التذكير بكيف أن الله خلق الإنسان من علق وكيف أنه علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. واتخذ الشيخ من هذه الآيات دليلا على جمع الأمر القرآنى بين الدين والعلم والفلسفة: اقرأ فى كتاب الله القرآن أى تدين وآمن واقرأ فى كتاب الله الكون أى تعلم وتفكر. ونفس الدلالة نستقيها من كتاب الأستاذ العقاد الشهير: «التفكير فريضة إسلامية» مع أن الأصل فى الأمور أن التفكير خاصية إنسانية، لكن العقاد وجد أن بعض المسلمين يجدون حرجا فى أن يطلقوا العنان لتفكيرهم وإبداعهم الشخصى، وهو نفس ما ذهب إليه الزكى النجيب محمود حينما صدر كتابه «رؤية إسلامية» بفصل عنوانه «أنا المسجد وأنا الساجد» أى أننا نحن المسلمين جعلت لنا الأرض مسجدا فالمعمل مسجد والعالم ساجد فيه وهو يعمل والمدرسة مسجد والمدرس ساجد فيها وهو يدرس والمشفى مسجد والطبيب ساجد فيه وهو يعالج مرضاه. فالمسلم مسجد وساجد فى آن معا. هذا ما ينبغى أن يكون وإن شئت فقل هذه هى القيم التى نمنا فى نورها، واستيقظ الآخرون فى ظلام غيابها، فتراجعنا وتقدموا. هذه كانت رسالة كل كتاب ومفكرى النهضة فى مصر طوال القرن العشرين، وقد حالوا جاهدين أن يحيونا من موت جهلنا لكنهم ماتوا جسدا وأمتناهم جسدا يوم أن ملأ الساحة من يستفيدون من تخلفنا ويغذونه مدعين أنهم يحاربونه من أجلنا.

دعونى أقول إن مجتمعاتنا تمر بمشاكل هيكلية. كالمبنى الذى تحتاج أساساته إلى إعادة تأهيل. القضية ليست فى دهان حجرة هنا أو تغيير عتبة سلم هناك. إن قوة خلطة المسلح التى نبنى بها الكبارى والأبنية الشاهقة لا تأتى من الرمل منفردا أو من الأسمنت منفردا أو من الحديد منفردا بل من خلطة محكمة بموازين معينة وعناية خاصة أفردت لها العلوم وأتقنها البشر بالعلم والتجربة حتى استقرت خطوات إجرائية منتظمة عند أهل الاختصاص من مهندسين إنشائيين ومدنيين بما يجعل مساحة الاجتهاد الشخصى فيها قليلا للغاية. والأمر ليس ببعيد عن كيفية حل الصراعات الاجتماعية والسياسية (أى التعايش) فى المجتمعات المعاصرة فهى مسائل انتهت علوم اجتماعية كثيرة من مناقشتها والوقوف على عواملها وكيفية تحقيقها. هل قرأتم هذه العبارة الأخيرة؟ لقد وردت فيها كلمة «علوم» ولكن من فى الدولة أو المجتمع يعبأ بالعلم والعلماء؟
إننا نعيش حالة من الخواء الفكرى جعل العلم شهادة لا قيمة لها سواء باعتمادنا على الدروس الخصوصية التى تحول لك كل ما قد يستدعى التفكير والإبداع والتأمل إلى مجموعة عبارات تحفظها كى تكتبها فى موضوع التعبير الذى هو فى الأصل اختبار للطالب فى حسن استغلال ما تعلمه نتيجة القراءة والاطلاع على المقررات المختلفة، لكن المدرس الشاطر يحول كل هذا إلى عدة عبارات يحفظها الطالب كى يكتبها فى بداية موضوع التعبير وفى خاتمته، فيتوقف إبداع الطالب وحسن استغلاله لما تعلم، وكذا فى العلوم الأخرى. احفظ المعادلة واكتبها ثم اكتب تحتها أى كلام فى الامتحان. هل هذا علم؟ لا هذه فهلوة، وكذا الدعوة للتعايش بانتقاء التجارب الجميلة من الماضى ونسيان أصل المشاكل.

ثم أين الثقافة العامة فى أمور الحياة من قصة ورواية وشعر بل حتى مشاهدة الأفلام الجادة مثل قنديل أم هاشم، التى فوجئت بأن البعض قد درسها فى الجامعة لكنهم ما فهموا منه ما ذكرته فى إحدى المقالات عن صراع العلم والخرافة فيها، وغيرها من الأفلام مثل الزوجة الثانية وما يصوره من إساءة استغلال الدين من قبل البعض، وفيلم ابن الحداد ليوسف وهبى والذى أعتبره درسا فى قيمة العمل واحترام الذات، وغيرها من الأفلام الجادة التى أعتبرها واحدة من أهم وسائل تكوين أى إنسان سوى فى مجتمعنا. وإذا كنت من هواة الأفلام الأجنبية شاهد فيلم «عقل جميل» الذى يحكى عن جون ناش واحد من أعظم علماء الاقتصاد وعن نضاله ضد مرضه النفسى حتى انتصر عليه وصولا إلى جائزة نوبل.

لقد تراجع كل هذا وأصبحنا أمام غلبة للتدين الشكلى الذى يحرص بعض الدعاة والعلماء على أن ينبهونا ألا نقف عند حدود الشكل فيه لكنهم حقيقة يغذون هذه النزعة الشكلية دون أن يدروا. أتدرون لماذا؟ لأن خلطة المسلح التى يصنعونها فيها الكثير من الرمل والقليل من الحديد والأسمنت، فيهوى البناء. فيها الكثير من الغيبيات الدينية والقليل من العلم والفلسفة.

الداعية لابد أن يكون داعية دين (عقيدة وأخلاق بالأساس) وعلم (وهو ما لن يحصله إلا إذا قرأ فى العلم بقدر ما يقرأ فى الدين) وفلسفة (وهو ما لن يحصله إلا إذا اطلع على إسهامات المفكرين والفلاسفة من الشعوب والمجتمعات الأخرى). فالدين بلا فلسفة سيكون شكليات تهتم بتوافه القضايا وتنعزل عن قضايا المجتمع الحقيقية، والدين بلا علم سيكون غيبيات واتكالية على سنن الله الخارقة التى ما وعد الله بها أحدا إلا بعد أن يكد ويكدح عملا بسنن الله الجارية. والفلسفة بدون دين ستكون شطحات وخروج عن المألوف والمقبول، والفلسفة بدون علم ستكون مثاليات نسمع عنها ولا نعرف كيف نصل إليها، والعلم بدون فلسفة سيكون أداة للدمار لأنه سيكون منزوع الأخلاق، والعلم بدون دين سيقف متحديا لقيم المجتمعات المتدينة فيرفضه العوام ولا يفيدون منه. إنها خلطة متوازنة متكاملة يلعب فيها كل مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية دوره. كخلطة الخرسانة التى يشد بعضها بعضا، فلا مفاضلة بينها وإنما التكامل. لكن التحدى الذى نواجهه أننا أكثر تقبلا لمظاهر الدين دون عمقه وطاقته الهائلة.

وهذا ما وعاه كبراؤنا وعلمونا إياه لأنهم حاولوا أن يحيونا لكننا أمتناهم بتجاهلنا إياهم. فحين نظر ابن تيمية فى أحوال المسلمين فى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى وجد أن حفظة القرآن وصحاح الحديث من الكثرة بما لا يمكن عده ومع ذلك كان فى الأمة من الوهن ما لا يمكن إغفاله مقارنة بما كان عليه المغول فقال قولته الشهيرة: «إن برع غير المسلمين فى علم من العلوم أو فن من الفنون أو فرع من الفروع، ولم يكن فى المسلمين نظيره فقد أثم المسلمون». وهو ما قرره الشيخ محمد الغزالى بقوله: «ما الذى يفيد الإسلام إذا طلق المسلمون الدنيا وتزوجها غيرهم» وبينهما مئات الإشارات من علماء ومفكرين كثيرين وجدوا ألا سبيل للنهضة إلا بأن تخلق بأخلاق النهضة. وأخلاق النهضة ترتبط بالعلم والتفلسف بقدر ما ترتبط بالدين وذلك بأمر الدين ذاته وإلا لماذا أمرنا الله أن نسير فى الأرض لننظر كيف بدء الخلق، أو أمرنا أن نسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم؟.

إن هذا المأزق الحضارى الذى تعيشه مجتمعاتنا العربية متعدد الجوانب والأسباب والمظاهر لكن أخطر ما فيه أننا غير واعين به أو على الأقل نحن متعايشون معه؛ فالهندى أو الصينى أو الكورى الشمالى أو الجنوبى أو الإسرائيلى أو الإيرانى لم يقبل أن يحيا حياته عالة على مجتمعات العالم الأخرى فى المعرفة والتكنولوجيا فطفقوا وبسرعة يخرجون من أطر الصناعات التقليدية التى اعتادوا عليها لعقود إلى آفاق أرحب يكونون فيها ليسوا فقط مستخدمين فوق العادة لما ينتجه الغرب من سلع وخدمات وإنما منافسون للغرب فى أكثر ما كان يتميز به الأخير. إن الخلل فى العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم جزء أصيل من تراجعنا فى مسارات الحضارة الست التى ناقشناها من قبل. وهو ما قد يحتاج مناقشات متعمقة فى المستقبل لكن أمورا أكثر إلحاحا تلوح فى أفق مجتمعنا المصرى بما قد يتطلب إعادة توجيه دفة النقاش إلى قضايا مصر الداخلية لعدة أسابيع قادمة.

Friday, June 19, 2009

تخلفساد

بقلم: معتز بالله عبد الفتاح

19 يونيو 2009 08:05:41 م بتوقيت القاهرة

تخلفساد

لا توجد كلمة فى اللغة العربية تكتب على هذا النحو ولكنها بناء لغوى غير سليم يهدف إلى الجمع بين التخلف والفساد بدمج حرفى الفاء فى الكلمتين.

وقبل التعمق أكثر، فأنا مدين بالتعليق على التفاعل المتباين للقراء الكرام مع مقال الأسبوع الماضى عن القدرة الإفسادية للدولة.

فقد تبارى كثيرون فى التعرض لأمثلة من واقع خبراتهم عن تراجع القيم الأخلاقية فى حين بدت أقلية من القراء أكثر استعدادا للدفاع عن القيم السائدة فى مجتمعاتنا العربية المعاصرة استنادا لحجتين: الأولى يلخصها الحديث الشريف: «الخير فىّ وفى أمتى إلى يوم الدين» والأخرى أن صحوة التدين المنتشرة فى مجتمعاتنا تؤكد أن المجتمعات العربية بخير. وليسمح القراء الكرام أن أختلف معهم فى الاحتجاج بالحديث دون وضعه فى سياقه وكذلك فى الاهتمام المبالغ فيه بالإكسسوارات الدينية التى هى قفز فوق الأخلاق أكثر منها تعميق لها.

فالحديث الشريف، وأمثاله كثير، لا يبدو لى حديثا تقريريا أى يقرر واقع الناس المعيش دائما ولكنه أقرب إلى أنه «ينبغى أن يكون الخير فى أمة الرسول العظيم إلى يوم القيمة.» وهذا الخير فى جوهره موجود لكننا نقترب منه ونبتعد بقدر التزامنا بقيم وأخلاقيات كثيرة لا أعتقد أنها مستقرة فى مجتمعاتنا دائما. وهذا الحديث أقرب إلى الآية الكريمة التى تقول: «إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم» وكأن المعنى ينبغى على المؤمنين أن يكونوا أخوة بحيث لا يتقاتلون. إذن فخيرية الأمة ليست واقعا بغض النظر عما يفعله المسلمون وإلا تصيبنا آفة أخرى من آفات بنى إسرائيل المذكورة فى القرآن بالاعتقاد أننا نسخة مسلمة من «شعب الله من الأخيار».

أما بشأن التدين الشكلى الذى نرى ملامحه فهو تفريغ للدين من جوهرة. ويدخل فى تعارض مباشر مع آخر مصدرين من مصادر الإلزام الخلقى التى ناقش مقال الأسبوع الماضى أول مصدرين منها (العقل والمجتمع).

فالمصدر الثالث للإلزام الخلقى وهو ما يسميه البعض بالحاسة الخلقية أو الضمير.

وهو أقرب إلى آية من آيات الله فى خلقه حتى من غير البشر، فيجعل لديهم شعورا بعدم الارتياح لفعل ما.

كما جاء فى الحديث الشريف: «الإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس».

والغريب أن القطة إذا أعطيتها قطعة لحم فإنها تقف بجوارك لتأكلها فى شموخ صاحب الحق، أما إذا سرقت منك هذه القطعة من اللحم فإنها تجرى مسرعة لتختبئ شعورا منها بأنها ارتكبت فعلا لاأخلاقيا.

وهذا ما يقوله أنصار هذه المدرسة مثل باتلر وشافتسبراى والكثير من الصوفية بأن اطمئنان النفس السوية لفعل ما أو تلاومها بشأنه يعنى أن المرء يواجه مأزقا أخلاقيا. وهذا النوع من الإلزام الخلقى يبدو الأضعف بحق إذا لم يجد البيئة الاجتماعية التى تدعمه لأنه كبذرة توضع فى أرض بور.

أما المصدر الرابع من مصادر الإلزام الخلقى فهو الدين وهو الحل الأمثل بل الأوحد عند الكثيرين منا. وهذه معضلة لأن الدين وحده، كما هو الحال فى حالة التدين الشكلى الذى نعيشه، لن يكون ذا تأثير أخلاقى فعال ما لم تتعاضد معه جميع مصادر الإلزام الخلقى الأخرى.

ونقطة البداية هى فهم ما هو الدين، وتحديدا الدين الإسلامى. فالإسلام له مكونات ستة رئيسية: العقيدة وكل ما يرتبط به من إيمان بالله وملائكته ورسله.

والعقيدة لا بد أن تترجم إلى عبادات (المكون الثانى) من صلاة وصوم وغيرهما.

ويبدو أن الكثير من المسلمين لا يجعلون عقيدتهم محل شك ولا يقصرون فى أداء العبادات.

بيد أن العقيدة والعبادات لهما بعدان آخران يستقيمان تماما معهما، وهما: الأخلاق والمعاملات.

فالدين يرسم لأتباعه خريطة من الفروض والمستحبات والمباحات والمكروهات والمحرمات ويجعل فى المحرمات ما هو من الصغائر وما هو من الكبائر، ويجعل من الفروض ما هو ضرورى على كل فرد من أفراد المجتمع (فرض عين مثل الصلاة) أو فرض كفاية يقوم به البعض دون البعض الآخر (مثل التخصص فى مجال معين من مجالات العلم).

ثم يضع الإسلام تحديدا، وهو أقرب فى ذلك إلى اليهودية منه إلى المسيحية، هذه الخريطة الأخلاقية وما يرتبط بها من معاملات (بالإيجاز أحيانا وبالتفصيل أحيانا أخرى) فى إطار قواعد قانونية حاكمة وهى الشريعة (المكون الخامس) وما تتضمنه من عقوبات وحدود (المكون السادس). وفى هذه المجالات الأربعة الأخيرة يبدو الخلل عميقا لدرجة تجعلنا نكرر مقولة محمد عبده: «مسلمين بلا إسلام».

فالشق الأخلاقى فى تديننا شديد الضعف. فالدين، سواء كان أرضيا أو سماويا، له تأثير كبير على المؤمنين به. ويكفى أن ننظر إلى المعاناة الشديدة التى يعانيها الحاج سفرا وسعيا وطوافا ومبيتا ابتغاء مرضاة ربه الأعلى الذى وعده بأنه سوف يرضى.

ويروى التاريخ تفاصيل تحول العديد من الشخصيات العظيمة من الكفر إلى الإيمان.

فما الذى دفع عمر بن الخطاب أن يتحول من معاقر للخمر يحبها ويدمنها إلى رجل «كأنه يرى الله بعينيه» كما وصفته امرأة تقدم لخطبتها فرفضته؟ بيد أن الدين فى ذاته احتاج دائما للسلطان القاهر بجواره حتى يردع من لا يبلغ الإيمان منهم مبلغ اليقين. وعليه قال أبوحامد الغزالى: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أى إن الله يردع بالقانون من لا يقبل أن يردع بالخوف من الله.

وهذا هو جوهر الخلل أن ما يقوله الفقهاء والعلماء والدعاة كالحرث فى البحر أو كالانفعال اللحظى الذى ينتهى بمجرد أن يخرج المستمع من الدراما الدينية التى تأتى مع القصص والمرويات المنتقاة بعناية للتأثير على المستمعين، بيد أن هؤلاء لا يجدون سندا من مصادر الأخلاق الأخرى.

فلو تصرف المسلم بالمثالية المستدعاة من الدين (بما تحمله من قيم نبيلة مثل الزهد والعفة والقناعة)، فأغلب الظن سيعيش حالة من الفصام النفسى لأن واقعه لا يشجعه على ذلك بما فى ذلك واقع الكثير ممن يدعونه لتبنى هذه القيم. فداعية مليونير يناضل بالكلمات المنمقة فى استوديوهات الفضائيات دون أن يقدم تضحية حقيقية دفاعا عن أى موقف يتبناه ليس الشخص المناسب لتربية الناس على الزهد والقناعة والجلد.

والأصل فى الأمور أن تتضافر مصادر الإلزام الخلقى حتى تكون الرسائل الاتصالية القادمة من الدولة ومن دور العبادة ومن الأسرة ومن أجهزة الإعلام متسقة تحمل نفس القيم، فتتحول اللوائح والقوانين إلى قيم وعادات يتقبلها الناس ويعيشون عليها.. وهو ما لمسته مثلا حين زرت اليابان زيارة خاطفة تبين لى فيها أن الثقافة والقانون والدين يقفون جنبا إلى جنب لإعلاء قيم العمل والإتقان واحترام خصوصية الآخرين والحرص على الصالح العام.

أما فى الكثير من المجتمعات العربية ومنها مصر، فلقد فقد المجتمع بوصلته على نحو يجعل المرء يتساءل من وما الذى يحدد للإنسان العربى الخير والشر، الحلال والحرام، المقبول والمرفوض، الصلاح والفساد؟ وهل فقدت مصادر الإلزام الخلقى الأربعة قدرتها على التأثير فى حفيد الفراعنة الذى كان يعتقد أجداده أنهم محاسبون على كل ما يفعلون بما فى ذلك تلويث النيل وعقوق الوالدين وما ينطق به اللسان؟

كيف لى أن أقنع الناس بالتزام القوانين واللوائح فى حين أن القائمين عليها أنفسهم يستخدمونها لتحقيق مآربهم الشخصية؟

كيف لى أن أقدم على فعل الخير وبيئتى الصغيرة تحذرنى من أن فعل الخير فى كثير من الأحيان ما هو إلا مقدمة لخدعة أو عملية نصب يقوم بها شخص ما ضدى؟.

كيف لنا أن نعتمد على الدين وحده فى بناء الشخصية المصرية من جديد فى الوقت الذى نتمسك فيه بالشكليات ولا يبدو لنا ديننا رادعا عن الكثير من الموبقات؟ إننا كمصرين ندفع مليارات الجنيهات فى تكرار الحج والعمرة ولا نعيد توجيه أولوياتنا لبناء المدارس والجامعات والتى هى لا شك فريضة أكثر من نافلة تكرار الحج والعمرة.

تشير بيانات البنك الدولى إلى أن مصر مثلا حققت فى عام 2007 نسبة 36 بالمائة فى قدرة الدولة والمجتمع فى السيطرة على الفساد، فى حين أن إسرائيل حققت 75 بالمائة مقارنة بالدول الاسكندنافية التى تقترب من مائة بالمائة.

تحدى الأخلاق خطير لأنه يعنى أننا لسنا فقط متخلفين ولكن بيننا من هو حريص على التخلف لأنه يحقق له مصالحه، وهذا هو الفساد. ومن هنا يأتى عنوان المقال: تخلفساد.

Thursday, June 18, 2009

زيارة أوباما.. وعالم جورج أورويل

أعمده

بقلم:
جلال أمين

18 يونيو 2009 05:48:51 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 9

زيارة أوباما.. وعالم جورج أورويل

لا يخفى على من قرأ رواية جورج أورويل الشهيرة «1984» أن الرقم الذى اختاره أورويل عنوانا للرواية لا أهمية له على الإطلاق.

كان كل ما يقصده أورويل أن يحذر مما يمكن أن يأتى به المستقبل، أو أن يقول إن النهاية الطبيعية لمسار المجتمع الحديث، كما كان يراه وقت كتابته للرواية، سيئة للغاية، ما لم نتدخل لتغيير هذا المسار قبل فوات الأوان. كان يكتب الرواية خلال سنة 1948، واختار الرقم 1984 اختيارا عشوائيا للدلالة على وقت ما فى المستقبل، ولم يكن هناك ما يمنع من أن يختار سنة أخرى فى المستقبل كسنة 2009 مثلا.

أما وقد اختار سنة 1984، فكان من الطبيعى عندما تحل تلك السنة «بعد نشر الرواية بثلث قرن» أن يتناقش الناس حول ما إذا كانت نبوءات أورويل قد تحققت، وما إذا كنا قد وصلنا بالفعل إلى ذلك المجتمع الرهيب الذى تصوره الرواية. أذكر أن من بين الكتّاب القليلين جدا الذين قالوا: «نعم، إن نبوءات أورويل قد تحققت، وأن ما حذرنا منه قد وقع بالفعل، على الأقل فى جوهره»، الكاتب الأمريكى العظيم ناعوم تشومسكى، وقد فرحت عندما وجدت رأى تشومسكى فى هذا الأمر مثل رأيى، إذ كنت أكنّ لتشومسكى دائما تقديرا شديدا، فسرنى أن ظنى لم يخب فى هذه المرة أيضا.

على أننى بعد قليل من التفكير، لم أستغرب أن يذهب معظم الكتّاب إلى عكس هذا الرأى، فينكرون أن تكون نبوءات أورويل قد تحققت، وأن يكون المجتمع الحديث قد أصبح فى 1984 بالفظاعة التى تصورها الرواية. وفسّرت هذا الموقف بأمرين: الأول أن «1984» هى فى نهاية الأمر رواية وليست تحليلا علميا، ومن الطبيعى أن يلجأ كاتب الرواية «أى رواية» إلى بعض المبالغة، وأن يختار من مظاهر الحياة التى يراها أمام عينيه بعضها ويتجاهل غيرها، وأن يعمد إلى «تكثيف» هذه المظاهر التى اختارها واعتبرها أكثر مغزى أو أكثر قابلية للبقاء من غيرها. «تكثيفها» بمعنى استخلاص الجوهرى منها والاستغناء عن التفاصيل وغير الجوهرى. العمل الفنى فى نهاية الأمر لابد أن ينطوى على اختيار وتأكيد واستبعاد وتضخيم لبعض جوانب الواقع دون غيرها، وإلا فما الذى يميز اللوحة الفنية لمنظر طبيعى، أو لوجه الإنسان، عن الصورة الفوتوغرافية؟

ولكن الحياة الواقعية لا تعرف عملية الاختيار والاستبعاد والتضخيم هذه، ومن ثم فمن الممكن جدا أن تخدعنا بعض التفاصيل التافهة، أو بعض المظاهر قليلة المغزى، وتحجب عنا رؤية المسار العام، أو التحولات المهمة فى حياتنا، فنظن ألا شىء مهم يحدث، بينما تحدث أمور بالغة الخطورة فى الحقيقة.

يذكرنى هذا بالخطابات التى كانت ترسلها لى أمى من مصر وأنا فى انجلترا، وكانت تختم خطاباتها عادة بعبارة «كل شىء على ما يرام»، وقد تضيف «ولا ينقصنا إلا رؤياك». ولكننى عندما استعرض الآن ما كان يحدث لأفراد العائلة فى فترة كتابتها لهذه الخطابات، أتعجب أشد العجب من خطورة وأهمية الكثير من هذه الأحداث، التى لم تسترع انتباه أمى مع ذلك، أو لم تدرك خطورته، فاعتبرت أن «كل شىء على ما يرام».

ولكن هناك سببا آخر لعدم ملاحظتنا لبعض الأشياء المهمة التى تمر بنا، غير كثرة ما نصادفه من تفاصيل صغيرة تحجب عنا الأهم منها، وهو مجرد «التعود». نحن للأسف كثيرا ما نتعود على أشياء سيئة جدا حتى نعتبرها من طبيعة الأمور، فنكف عن التأفف منها، ومن ثم لا نبذل أى محاولة لمقاومتها.

هذا فى رأيى ما حدث منذ ظهرت رواية أورويل فى سنة 1949 لقد حدثت بالفعل أشياء كثيرة مما توقعه، والصورة العامة التى رسمها زادت قتامة مع مرور الوقت، ولكن هذا التدهور صاحبته أحداث أخرى وتفاصيل كثيرة جعلت من الصعب علينا رؤية الاتجاه العام لمسار الحياة الحديثة، فضلا عن أننا تعودنا على أشياء سيئة كثيرة، فلم نعد نتأفف منها، واعتبرناها من طبيعة الأمور التى يتعين قبولها.

******

كان لابد أن تطوف بذهنى مثل هذه الأفكار بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما للقاهرة فى 4 يونيو الماضى. جلست أمام التليفزيون منذ ظهور أوباما على الشاشة، وتتبعت مساره منذ بداية وصوله إلى قصر القبة لمقابلة الرئيس مبارك، ثم خروج موكبه من القصر، ثم طوافه فى مسجد السلطان حسن واستماعه لشرح ما يراه فى المسجد من سيدة مصرية/ أمريكية، ثم ظهوره فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، ووقوفه وحده على المنصة، وإلقائه خطابه الموجه إلى المسلمين فى كل مكان، والذى استقبل استقبالا حافلا وغطته وسائل الإعلام فى سائر أنحاء الأرض.

شاهدت بعينى وسمعت بأذنىّ ما يدل على افتتان الناس الشديد بالرئيس الأمريكى الجديد، ثم قرأت فى الصحف ما يؤكد هذا الافتتان الشديد. وعبر كثيرون من بينهم من اعتبرهم من صفوة أصحاب الرأى فى مصر، عن آمال كبيرة فى أن يحقق هذا الرجل للعرب والمسلمين ما لم يحققه رؤساء أمريكا السابقون. تفاوتت درجة التفاؤل لدى هؤلاء، ولكنهم عبروا عن تفاؤل لا شك فيه فى أن يكون هذا الرئيس الجديد أفضل بكثير من سابقيه، حتى للعرب والمسلمين.

ولكننى لاحظت أيضا أننى شعرت بالحزن بعد انتهاء الخطاب، وبأننى أحتاج لفترة بعد أن أغلقت التليفزيون أحاول فيها أن أتبين مغزى ما رأيته بالضبط. ومرة أخرى قفزت إلى ذهنى رواية 1984 وعالم جورج أورويل.

******

فى أثناء إلقاء أوباما لخطابه سمعت صوتا يأتى من القاعة يهتف لأوباما بقوله «We Love you Obama» «نحن نحبك يا أوباما!». وكان هذا كافيا لتذكيرى بالرواية. فالرواية مليئة بالهتافات «للأخ الأكبر» Big Brother، وهو رئيس الدولة الخيالية، والهتافات فى الرواية هستيرية، اعتاد الناس عليها، فأصبحت تصدر منهم بلا تفكير، بل وبإخلاص. والرواية تنتهى بعبارة لا شك أن أورويل اعتبر أنها تلخص مغزى الرواية كلها، وهى تصف شعور بطل الرواية «وينستون» بعد أن تعرض لتعذيب فظيع وغسيل تام للمخ، وتحوّل إلى شخص جديد تماما، كره حبيبته وفقد أى رغبة فى رؤيتها، وتنتهى الرواية بأنه أصبح: «يحب الأخ الأكبر».

سألت نفسى عما إذا كان هذا معقولا؟ هل من المعقول أن هذا الذى رأيته على شاشة التليفزيون له علاقة بمضمون رواية 1984؟

هل معقول أن كل هذه المشاعر من الحب والتقدير والافتتان التى يشعر بها الناس نحو أوباما، لها صلة بمشاعر الناس فى رواية أورويل، ولها أسباب مماثلة؟ أخذت أستعيد ما رأيته وسمعته لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال.

أوباما بلا شك رجل جذاب جدا، وفصيح للغاية. ولكن من قال إن «الأخ الأكبر» فى رواية أورويل لم يكن أيضا جذابا جدا وفصيحا؟ أريد أيضا أن أزعم أن جزءا كبيرا من جاذبية أوباما يرجع إلى أنه رئيس جمهورية، بل ورئيس جمهورية أغنى وأقوى دولة فى العالم، وأنه رئيس أسمر اللون فى دولة غالبية سكانها من البيض، ومن الذين كانوا حتى وقت قريب يسيئون معاملة الملونين. أن يصبح رجل أسمر رئيسا لجمهورية هذه الدولة، ويحاط بكل مظاهر الأبهة التى لم يكن يتصور أن يحظى بها إلا رجل أبيض، وأن تظهر بجواره زوجة شابة لطيفة، وسمراء مثله، وبنتان صغيرتان ضحوكتان، وينزل من سيارة مبهرة فيحييه جنود عظام ذوو بشرة بيضاء، ويُعزف له السلام الجمهورى.. الخ، كل هذا لابد أن يضفى عليه جاذبية تضاعف من أثر وجهه الوسيم. ولكن كل هذا لا يمكن أيضا أن يحدث أثره فى الناس إلا من خلال وسائل الإعلام التى لا عمل لها إلا تحول أشخاص عاديين إلى أبطال، ونساء متوسطات الجمال إلى نجوم.

هذه نقطة جوهرية فى رواية أورويل: ما تصنعه وسائل الإعلام بالناس، وكيف تتلاعب بعقولهم بالمبالغة أحيانا أو بمجرد التكرار، وبمختلف الحيل التكنولوجية التى توجد مشاعر الحب أو الكراهية، بطرق لا عقلانية بالمرة، كالجمع بين صورة الزعيم وصورة شىء جميل قد لا يمت للزعيم بصلة، أو ربط اسمه بخبر سعيد لم يكن هو السبب فيه، فضلا عن إظهار من يراد زيادة شعبيته فى أفضل صورة دائما، وتجنب تصويره فى أى موقف قد لا يبعث على الثقة.

خذ المثال الآتى: لقد بُهرت كما بهر الجميع بقدرة أوباما الخارقة على الخطابة والارتجال، وأدهشتنى كل الدهشة قدرته على إلقاء هذا الخطاب المتقن لمدة تقرب من الساعة، بترتيب رائع ومنطق أخّاذ، وقدرته على تذكر النقاط السبع التى احتواها الخطاب، فينتقل من الواحدة إلى الأخرى دون تردد أو أى جهد لمحاولة التذكر، مع خطورة ما يقوله، وما يمكن أن يترتب على أى خطأ صغير من إثارة مشكلات سياسية أو إغضاب دولة صديقة أو مجموعة من الناس لا يصح إغضابهم. يفعل كل هذا دون أى خطأ أو تلعثم، فيا له من رجل!

ذكرت هذا لصديق أمريكى له معرفة أكبر منى بكثير بما أحرزته تكنولوجيا الإعلام من تقدم، فابتسم وقال لى: إن الحقيقة ليست كذلك بالضبط. فعلى يمين أوباما وعلى يساره، فوق منصة قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، يقف لوحان زجاجيان كبيران محدّبان لا يراهما الجمهور، بينما تجرى عليهما سطور الخطاب الذى يلقيه، على نحو يستطيع هو أن يقرأه وهو واقف فى مكانه، ناظرا مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، فيبدو للناس وكأنه يرتجل الكلام أو يحفظه عن ظهر قلب، بينما هو لا يفعل أكثر من قراءة كلام مكتوب أمامه، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح.

******

لاحظت مما شاهدته من صور تتعلق بزيارة أوباما، على شاشة التليفزيون أو فى الصحف، منظر شوارع القاهرة التى مر بها الموكب وما سمعته عما فعله رجال الأمن من أجل تأمين سلامة الموكب تأمينا كاملا. الشوارع تبدو شبه خالية من الناس، وكذلك الشرفات، والنوافذ مغلقة. ثم عرفت أن هذا تم بأوامر مشددة من الشرطة، بل قيل إن سكان البيوت التى تطل شرفاتها على الموكب قد صدرت لهم تحذيرات من الظهور فى الشرفة وإلا حدث لهم مكروه. كل هذا عدا إغلاق مدارس وجامعات ونواد رياضية وتأجيل الامتحانات.. إلخ.

جرى هذا كله من أجل تحقيق رغبة رئيس دولة أجنبية فى إلقاء خطاب موجه «للعالم الإسلامى»، فى موعد تم تحديده من جانبه هو، وفى مكان اختاره مستشاروه ورجال أمنه، وبحضور مدعوين لم تحددهم الدولة «المضيفة» بل اختارهم رجاله هو من بين المصريين والأجانب، بصرف النظر عما إذا كانت حكومة الدولة «المضيفة» راضية عنهم أو غير راضية، وما إذا كانت دعوتهم تعتبر «تطبيعا» مع إسرائيل أو لا تعتبر كذلك.

هل كان هذا الرجل «الجذاب جدا» راضيا عن كل هذا، أو حتى أستشير فيه، أم فرضت كل هذا اعتبارات أمنية وتكنولوجية وسياسية عليا، أعلى حتى من الرئيس الأمريكى، ويصعب تشخيصها والتكهن بطبيعتها وكأنها إرادة إلهية؟
كل هذا ينتمى إلى عالم جورج أورويل، ولكننى تذكرت كيف كان الحال مختلفا فى سنة 1974، أى منذ نحو ثلث قرن، عندما جاء ريتشارد نيكسون رئيس الولايات المتحدة آنذاك لزيارة القاهرة فى أعقاب تحوّل السياسة المصرية من الولاء للسوفييت إلى الولاء للأمريكيين. اتخذت إجراءات أمن مشددة بالطبع، ولكنها لا يمكن مقارنتها بما اتخذ من إجراءات لحماية أوباما. فالشوارع ظلت مفتوحة، وسُمح للناس بالاصطفاف على الأرصفة وتحية الموكب من الشرفات، بل وظهر نيكسون فى سيارة مكشوفة إلى جانب الرئيس السادات، مع أن نيكسون لم يكن يحظى بجزء صغير مما يحظى به أوباما من شعبية لدى المصريين. ما الذى حدث يا ترى خلال ثلث القرن الماضى لبث كل هذا الخوف فى النفوس. لم تكن ظاهرة «الإرهاب» قد اخترعت بعد، ولكن هذه الإجراءات الأمنية المشددة لم تتخذ خوفا من الإرهاب، بل الأقرب إلى الحقيقة أن الإرهاب قد اخترع أصلا لبث الخوف. وأما الدافع الحقيقى إلى بث الخوف فى نفوس الناس فلم يشرحه أحد بأفضل مما شرحه أورويل فى رواية «1984».

ولكن أهم ما فى رواية «1984» ليس ما تبثه الدولة التكنولوجية الحديثة من خوف فى نفوس الناس، ولا قدرة السلطة على التجسس على الناس وهم جالسون فى بيوتهم، وتسجيل حركاتهم وسكناتهم، بما فى ذلك ما يسميه أورويل «جريمة الوجه» Face Crime أى أن ترتسم على الوجه مشاعر معادية للنظام بل الأهم من ذلك ما تمارسه السلطة من كذب مستمر على الناس والترويج لعكس الحقيقة بالضبط، مع إلباس الكذب والنفاق رداء الفضيلة. هكذا وجدت خطاب أوباما، وهذا هو ما بعث فى نفسى الحزن بعد انتهائى من سماعه. فهو يقول كلاما منسقا تنسيقا بديعا ولكنه مخالف مخالفة تامة للحقائق. يتظاهر بالجزع لمحرقة اليهود بينما هو يقول الكلام الذى طلب منه الإسرائيليون وأنصارهم أن يقوله، ويتظاهر بالتعاطف مع محنة الفلسطينيين دون أن يعد بتلبية مطلب واحد من مطالبهم، ويتظاهر بأنه لا يعرف الفرق بين المسئول عن محنة اليهود فى ظل ألمانيا النازية والمسئول عن محنة الفلسطينيين، ويتظاهر باحترام الإسلام وتبجيله دون أن يعد بشىء من أجل التخفيف من آلام المسلمين.

الكلام كله إذن جميل جدا، ولكنه مزيف تماما. وهو بالضبط ما عناه أورويل فى ملحق كتابه عن «اللغة الجديدة»، وما قصده عندما أشار إلى تسمية وزارة الحرب فى دولته الخيالية «بوزارة السلام»، وتسمية الوزارة المسئولة عن تزييف التاريخ وبث المعلومات الكاذبة «بوزارة الحقيقة». أما صياح أحد الحاضرين أثناء إلقاء أوباما بالخطاب «نحن نحبك يا أوباما»، فليس لدينا ما يؤكد أنه كان عملا تلقائيا يعبر عن شعور حقيقى أم أنه أيضا قد تم ترتيبه مقدما. ولكن سواء كان عملا تلقائيا أم مرتبا بفعل المسئولين عن ترتيب هذا المهرجان برمته، فإنه أمر محزن للغاية.

Saturday, June 13, 2009

لماذا لَبِس أوباما العِمّة؟

أعمده

بقلم:
جلال أمين

13 يونيو 2009 09:32:37 م بتوقيت القاهرة

تعليقات: 7

لماذا لَبِس أوباما العِمّة؟

عندما أعلن عن عزم الرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما على زيارة القاهرة، قيل إن السبب رغبته فى توجيه خطاب إلى «العالم الإسلامى» ولم يقل إن الغرض إجراء مباحثات مع الرئيس المصرى، ولا توجيه خطاب إلى العالم العربى، بل للمسلمين.

والرئيس أوباما عندما جاء إلى القاهرة لم يتضمن على أى حال إلا مدة قصيرة للغاية مع الرئيس مبارك، ولا تحدث الاثنان، كما يحدث عادة، فى مؤتمر صحفى مشترك، بل كان واضحا أن مقابلته للرئيس المصرى كانت للمجاملة، تمت أساسا للمحافظة على المظاهر الضرورية، وكذلك للتعزية الواجبة فى وفاة حفيد الرئيس.

ولكن أوباما خرج من قصر القبة متجها إلى جامع السلطان حسن، فلماذا يا ترى اختير هذا المكان ليقضى فيه أوباما ساعة من ثمانى ساعات ثمينة هى كل ما سيقضيه فى القاهرة؟ لا يمكن أن يكون السبب حب أوباما للآثار الإسلامية، أو للآثار بصفة عامة.

بل لابد أن يكون لزيارة جامع السلطان حسن دافع سياسى أيضا، يتعلق بلا شك بما يراد للزيارة أن تحدثه من أثر، عن طريق وسائل الإعلام، على نفوس المسلمين فى مختلف أنحاء الأرض.

الصحفيون الذين يدعون للالتقاء بالرئيس الأمريكى، على قلتهم، يضمون صحيفة إندونيسية وأخرى ماليزية. والخطاب نفسه ملىء بالمقتطفات من القرآن الكريم، وأوباما يؤكد فيه على أن «حسين» جزء من اسمه، على الرغم من أنه تم تغيير ديانته وهو صغير وتعميده مسيحيا، وأنه قال الكثير أثناء حملته الانتخابية لتملق الكنيسة. لقد أخطأ خطأ بسيطا أثناء خطابه فقال «حجيب» بدلا من «حجاب» ولكن المسلمين الحاضرين غفروا له ذلك لكثرة ما عبّر عنه فى الخطبة من إعجاب بالإسلام ومبادئه، ولأنه حياهم فى بداية الخطاب ونهايته بالتحية الإسلامية الصحيحة «السلام عليكم»، وقال إن مما يشرفه أن يستضيفه فى القاهرة مؤسستان مرموقتان إحداهما الأزهر، «بالإضافة إلى جامعة القاهرة»، كما أشاد بدور الإسلام فى الحضارة الإنسانية.

أثناء ذلك كله تجاهل أوباما «متعمدا بلا شك» الإشارة إلى أى شىء «عربى»، فليس هناك اعتراف بأى شىء يجمع العرب، هناك فى المنطقة «أديان» ولكن ليس فيها «قوميات». ربما كانت القومية العربية مفيدة وتستحق التشجيع منذ خمسين أو ستين عاما، عندما كان من المفيد تعبئة العرب لطرد الانجليز والفرنسيين من ناحية، وضد الاتحاد السوفييتى من ناحية أخرى. (أو كما كانت بالطبع فى أوائل القرن العشرين عندما كان من المفيد تعبئة الشعور العربى ضد تركيا).

أما الآن فالعروبة معيار فاسد للتجمع والتكتل، إذ إنها توحى بوجوب التضامن مع الفلسطينيين وضد إسرائيل، بينما يؤدى التركيز على الدين الآن، إلى الاعتراف بحق اليهود فى دولة مستقلة مثل غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى.

لقد تكررت الإشارة فيما كتب من تعليقات على هذا التودد من جانب أوباما للمسلمين، وعلى إشادته بالإسلام، إلا أن أوباما إنما يريد تصحيح أخطاء الرئيس السابق بوش الذى دأب على إغضاب المسلمين بإلحاحه على اقتران الإسلام بالإرهاب، حتى كاد يستقر فى الأذهان أن الإرهابى هو بالضرورة مسلم، والمسلم بالضرورة إرهابى، مما زاد من حنق المسلمين للولايات المتحدة، وأنه قد آن الأوان لتصحيح هذا الخطأ.

ولكننى لا أميل إلى تفسير سلوك أوباما فى مغازلة المسلمين بأنه مجرد اعتراف بخطأ سابق ورجوع إلى الصواب، بل يبدو لى أن ما كان ملائما فى فترة لم يعد ملائما فى فترة تالية، وأن الذى كان يخدم مصالح إسرائيلية وأمريكية فى عهد الرئيس السابق بوش، لم يعد هو أفضل الوسائل لتحقيق المصالح الإسرائيلية والأمريكية الجديدة. فما الذى جدّ؟

******

لقد انقضى ما يقرب من ثمانى سنوات على أحداث 11 سبتمبر، حدثت خلالها أشياء مهمة فى العالم. كان الاقتصاد الأمريكى يبدى منذ وقت طويل مظاهر الضعف، والتدهور المستمر فى المركز النسبى للاقتصاد الأمريكى فى العالم ككل. فى نفس الوقت كانت نجوم أخرى تصعد فى الاقتصاد العالمى، أهمها الصين ودول جنوب شرق آسيا، ثم انضمت إليها الهند، كما أخذت روسيا تستعيد عافيتها. وقد قوّت هذه التطورات من قلب إيران وشجعتها على مزيد من تحدى الإدارة الأمريكية، كما حاولت الصين وروسيا تقوية علاقاتهما بإيران كجزء من لعبة توازن القوى فى العالم ولتحقيق أهداف اقتصادية مهمة لهما، تتعلق أساسا بالبترول فى حالة الصين. زاد أيضا من ضعف الولايات المتحدة، عجزها عن تحقيق بعض الأهداف المهمة من احتلالها للعراق يرجع على الأرجح إلى عجز الولايات المتحدة عن إجبار أو إقناع الدول الكبرى الأخرى «فى أوروبا الغربية وروسيا والصين واليابان» بقبول ترتيب جديد للشرق الأوسط تحصل فيه هى وإسرائيل على نصيب الأسد. كانت بريطانيا «بقيادة تونى بلير» هى الدولة الكبرى الوحيدة التى وافقت على السير فى ركاب السياسة الأمريكية، ولكن حتى بلير رأى من مصلحته أن يقفز من السفينة الغارقة فى الوقت المناسب.

******
لابد أن بعض الرجال من ذوى المراكز المؤثرة فى المؤسسة الأمريكية «أى مجموعة أصحاب المصالح الكبرى المالية والصناعية والعسكرية» وأصحاب القرارات الأساسية فى توجيه السياسة الأمريكية، خارجيا وداخليا، قد أدركوا عندما حان موعد الاستعداد للحملة الانتخابية الأخيرة أن تغييرا حاسما فى أسلوب السياسة الأمريكية قد أصبح مطلبا ضروريا وعاجلا. العالم يتغير بسرعة، ومركز أمريكا فيه آخذ فى التدهور، من الناحية الاقتصادية، ولكن تدهور المركز الاقتصادى لابد أن يؤدى، مهما كانت قوة أمريكا العسكرية الآن، إلى التدهور السياسى والعسكرى أيضا. لابد إذن من العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ولكن إسرائيل والصهاينة يرون أيضا، فضلا عن التدهور المنظم فى مركز أمريكا الاقتصادى فى العالم، أن النجاح الذى حققته إسرائيل فى الخمسين سنة التالية لإنشائها فى 1948، والتدهور المستمر فى قوة العرب، والضربات المتتالية التى تلقتها فكرة القومية العربية وحركة التوحد العربى، كل هذا يفرض على إسرائيل اتخاذ خطوات أخرى حاسمة: إما لوضع حد للمشكلة الفلسطينية بأسرها، أو على الأقل لإحراز مكاسب جديدة وسريعة نحو تحقيق الحلم النهائى: دولة إسرائيلية خالصة، تسيطر سيطرة تامة على المنطقة العربية المحيطة بها «بما فى ذلك المياه والبترول والغاز الطبيعى والأسواق».

فإذا كانت أمريكا التى ضمنت لإسرائيل الوجود ابتداء، ثم حمتها ودعمتها طوال أكثر من نصف قرن، تمر الآن بمرحلة انحسار واضح فى القوة والنفوذ، فما أجدر بإسرائيل من أن تحاول استغلال الحماية التى تقدمها أمريكا لها إلى أقصى درجة ممكنة قبل أن يحل اليوم الموعود، الذى يبدو أنه ليس هناك مفر منه، حين يتحول العالم إلى عالم متعدد الأقطاب تحتل فيه الولايات المتحدة مكانة لا تزيد عما تحتله بقية الأقطاب، ولا تستطيع فيه الولايات المتحدة أن تفرض إرادتها على الباقين، لصالح إسرائيل، كما دأبت على ذلك منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

******
نظر رجال المؤسسة الأمريكية «وفيهم أنصار إسرائيل والصهيونية»، فلاحظوا وجود رجل مدهش يريد أن يشتغل بالسياسة، وتتوافر له كل صفات الزعامة التى لم تتوافر لرئيس أمريكى سابق منذ جون كيندى: الجاذبية الشخصية، الثقة العالية بالنفس، الذكاء والثقافة الواسعة، وقدرة نادرة على الارتجال والخطابة المؤثرة. ها هو إذن رجل ملائم تماما للمرحلة الجديدة فى حياة الولايات المتحدة، وله فضلا عن ذلك زوجة ذات وجه بشوش وطفلتان لطيفتان يمكن أن تحولهم وسائل الإعلام بسهولة إلى مادة خصبة للترويج للرئيس الجديد وزيادة شعبيته. إنه من الممكن لهذا الرجل أن يخدم بشدة هدف تحسين صورة أمريكا فى العالم بعد أن تدهورت إلى درجة أضرت حتى بمبيعات الشركات الأمريكية الكبرى، مثل كوكاكولا وماكدونالدز، إذ إن من بين ما كان يخدم تصريف مثل هذه السلع اعتبارها رمزا لدولة جديرة بالاحترام والتقدير.

ولكن هذا كله ليس أهم ما فى باراك أوباما. فهو بالإضافة إلى ما سبق، إذ أصبح رئيسا، سيكون رئيسا «جديدا تماما» ويمكن أن تستخدم هذه الصفات الجديدة فيه لخدمات المصالح المطلوب تحقيقها فى المرحلة الجديدة. وأقصد بهذه «الصفات الجديدة» شيئين على وجه التحديد: اللون والتاريخ.

فالرجل أسمر، وهذا شىء مفيد جدا كرمز لديمقراطية الولايات المتحدة وتسامحها وعدم تعصبها واحترامها لحقوق الإنسان، ولابد أن يمس هذا عصبا حساسا لدى الملونين فى كل أنحاء العالم، بل ولدى كل المستضعفين فى الأرض، ناهيك عن الأفريقيين على وجه الخصوص الذين جاء من بينهم والد باراك أوباما.

أما التاريخ، ففضلا عن الأصل الأفريقى لأبيه، فإنه يشمل موضوع الدين. فالأب ليس فقط أفريقيا بل أيضا مسلم. صحيح أن باراك أوباما مسيحى الآن، ولكن الأصل الإسلامى واحتواء اسمه الكامل على اسم لا شك فى انتسابه للإسلام «حسين» يمكن استخدامه استخداما مفيدا لكسب تعاطف المسلمين فى كل مكان نحو الولايات المتحدة. والمسلمون الآن يحتلون أهمية أكبر من أى وقت مضى. فعددهم فى العالم نحو بليون ونصف البليون، أى ما يقرب من ربع سكان العالم، ويزيدون بمعدل أكبر بكثير من معدل الزيادة فى أصحاب الديانات الأخرى. وغالبيتهم العظمى تتركز فى منطقة تتحول بسرعة إلى أن أصبحت أكبر مصدر لقلق الولايات المتحدة، وهى جنوب شرق آسيا. فهناك تنمو مراكز قوية منافسة بشدة للاقتصاد الأمريكى، وفى المستقبل القريب، للقوة العسكرية الأمريكية أيضا. وحيث تنتقل مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية تنتقل أيضا مطامح الدولة الإسرائيلية والصهيونية. فهكذا فعل الصهاينة لزيادة قوة تأثيرهم فى السياسة البريطانية عندما كانت بريطانيا تحكم العالم، وهكذا حولوا ولاءهم للولايات المتحدة عندما أصبحت الولايات المتحدة أقوى دولة فى العالم، فوجب الآن الاهتمام بمراكز القوة الجديدة الصاعدة فى جنوب شرق آسيا.

ولكن التركيز على الدين مفيد بوجه خاص، فى هذه المرحلة، لإسرائيل والصهيونية، إذا كان الهدف (كما تدل شواهد عديدة)» يتضمن تحويل إسرائيل إلى دولة يهودية صرف، بإخراج المسلمين منها وإلحاقهم بدول مسلمة. من الملائم إذن أن يصبح أساس التقسيم فى الشرق الأوسط دينيا لا قوميا. وأن تصور مشكلة القدس، طبقا للإخراج الجديد، ليس على أنها مشكلة حلول قومية محل أخرى، بل مشكلة ممارسة أصحاب كل دين من الأديان الثلاثة لدينهم بحرية، ولا يهم بعد ذلك ما إذا كانت القدس ستظل خاضعة للدولة الإسرائيلية، فالمهم هو التعبد وليس السيطرة السياسية، أو الحصول على إيرادات السياحة.

ليس من الصعب على خطيب مفوّه، وله هذا القدر من الجاذبية الشخصية أن يستخدم «صفاته» الإسلامية الاستخدام المفيد عند اللزوم «ونسيانها أيضا عند اللزوم». وقد جاء خطابه فى جامعة القاهرة مذهلا فى محاولته الاستفادة من هذا الجانب من تاريخه، ولكن كان من المذهل أيضا موقف الحاضرين، الذين تركوا لعواطفهم العنان مستسلمين لهذا الاستغلال الواضح للموقف لتحقيق مصالح، ذات ضرر بالغ بالمسلمين.

******
ما النتيجة المقصودة من هذا كله؟ النتيجة هى إعلان الموقف الأمريكى فى عهد الرئيس الجديد متضمنا تجديد الالتزام الأمريكى بدعم الأهداف الإسرائيلية، فيقطع دابر أى تكهنات قد تظهر لدى العرب أو الفلسطينيين حول إمكانية تحول الموقف الأمريكى لصالحهم. فبعكس ما فهم البعض من الممعنين فى التفاؤل، لا ينطوى الخطاب على أى «تحسن» فى الموقف الأمريكى من وجهة نظر العرب والفلسطينيين. فالخطاب يقول إنه لابد أن ينبذ الفلسطينيون العنف، وعلى العرب الاعتراف بقبول التعايش والتعامل مع إسرائيل دون أن تطالب إسرائيل بشىء غير عدم بناء مستوطنات جديدة، إذ يبدو أن ما بنته حتى الآن كاف تماما.

ولا ذكر بالطبع لحق الفلسطينيين المشردين فى العودة إلى بلادهم، فمشكلة الفلسطينيين ليست فى أنهم طردوا من بلادهم، بل فى أنهم ليس لديهم دولة خاصة بهم. فليعطوا إذن دولة، ولا يهم بعد ذلك طبيعة هذه الدولة أو حدودها أو صفاتها أو سلطاتها بل لا يهم ما إذا كان يمكن العبور من جزء منها إلى جزء آخر، ولا ذكر للحائط الذى بنته إسرائيل للفصل بين جزء وآخر من فلسطين...الخ

ليس لكل هذا ذكر فى هذا الخطاب «التاريخى». أما تظاهر وسائل الإعلام والسياسيين فى إسرائيل بالغضب من الخطاب ووصفهم له بأنه تنازل كبير لصالح الفلسطينيين، فليس إلا حيلة معروفة ومألوفة من جانب الإسرائيليين، الذين ينكرون أى مكسب يحققونه، ويتظاهرون بالبكاء عندما يكونون فى أشد الفرح، طمعا دائما فى المزيد.

Friday, June 12, 2009

القدرة الإفسادية للدولة

بقلم: معتز بالله عبد الفتاح

12 يونيو 2009 07:08:00 م بتوقيت القاهرة

رابط المقال الأصلي
على سبيل التذكرة، فإن عدة مقالات تم تخصيصها فى هذه المساحة لمناقشة تراجع الكثير من المجتمعات المسلمة فى مسارات التحضر الست: مسار التنظير والتفكير والابتكار، ومسار الحكم والسياسة وإدارة الدولة.

ومسار الأخلاق والمبادئ والقيم، ومسار العلم والتكنولوجيا والقدرة على الابتكار، ومسار الإنتاج والثروة والتراكم الرأسمالى، ومسار الصراع والسلاح وإدارة الحروب.

وقد يكون من المفيد مناقشة قضية الأخلاق والمبادئ والقيم والتى هى فى الأصل مفاهيم دوارة ينفذ بعضها إلى بعض. فالأصل فى الأمور أن الأخلاق هى مجموعة من المبادئ والقيم التى يلتزم بها صاحبها بغض النظر عن العائد المادى أو المعنوى المرتبط بها. بل إن قمة التزام الإنسان بالأخلاق يتجلى فى أن يلتزم المبدأ حتى وإن تعارض مع المصلحة.

ولكن من وظيفة النظام السياسى والإدارى فى أى دولة ألا تجعل الإنسان يختار بين المصلحة والمبدأ وإنما تجعلهما معا اختيارا واحدا فيصبح الخيار الأخلاقى هو الخيار العقلانى وتجعل من الفساد اختيارا غير عقلانى، ولنأخذ مثالا على ذلك. فلو خالفت إشارة المرور فى الولايات المتحدة فسيستوقفنى ضابط الشرطة ليعطينى مخالفة عادة فى حدود المائة دولار. فلو قررت أو قرر الضابط أن يتصرف على نحو غير أخلاقى، فسيجد كل منا أنه يتصرف على نحو غير منطقى ولا يخدم مصلحته.

فمثلا لو قررت أن أدفع له رشوة فلا بد أن تكون أقل من المائة دولار قيمة المخالفة. ولكن هل سيقبل هو؟ الإجابة: لا، لأنه ليس من العقلانية له أن يختار الفساد لأن مبلغ المائة دولار أو ما دونها أقل كثيرا مما يغريه لأنه يحصل سنويا على راتب فى حدود 60 ألف دولار وامتيازات صحية وتأمينية أخرى سيفقدها جميعا إن ثبت أنه حصل على هذه الرشوة.

إذن فالنظام مصمم على نحو يجعل من الغباء أن تكون فاسدا. وسيصبح الفساد خيارا عقلانيا، كما هو الحال فى مصر مثلا، حين يكون راتب الموظف العام ضعيفا لدرجة تجعله يبحث عن المبررات كى يتصرف على نحو غير أخلاقى. فلو كان راتب الضابط الأمريكى 20 ألف دولار فى السنة والمخالفة مائة دولار.

هنا سيكون الفساد بديلا مبررا عقلانيا ويستحق المغامرة فى ضوء ضعف راتب الضابط. وكذا لو كان راتبه فى حدود الـ60 ألف دولار سنويا لكن قيمة المخالفة 1000 دولار، فساعتها قد يقبل رشوة مقدارها 500 دولار مثلا لأن قيمتها تستحق المغامرة حتى مع راتبه الكبير نسبيا.

وكذا الأمر مع الفساد المالى والسياسى والذى يودى بصاحبه إلى السجن أو إلى الإقالة لاسيما مع تداول المناصب الإدارية والسياسية والتى يكون معها المسئول الجديد غير راغب أو مستعد لأن يتحمل أخطاء السابقين فيكشف فسادهم إن وجد كى يبرئ ساحة نفسه.

كل ما سبق يؤكد أن من وظيفة النظام السياسى أن يدعم الأخلاق وأن يجعلها اختيارا عقلانيا بأن يوفر لمواطنيه فرصا حقيقية تجعل المرء يعمل لله وللوطن وللحياة الكريمة دون أن يجد الحاجة للاختيار بينهم. وهذا ما فشل فيه كثير من مجتمعاتنا.

وللموضوع أساسه الفلسفى حيث هناك مصادر أربعة رئيسية للإلزام الخلقى، لا بد أن تتكامل لتنتج مجتمعا أخلاقيا، وهو ــ للأسف ــ ما فشلت فيه الكثير من مجتمعاتنا ذات الأغلبية المسلمة، مع نجاحات مهمة فى حالات استثنائية.

أما مصادر الإلزام الخلقى هذه فهى على النحو التالى: أولا العقل، فعقل الإنسان يجعله يفكر فى أنه من مصلحته المباشرة أن يلتزم بالمبادئ التى لو خالفها، فسيخالفها الآخرون حتى لا يقع فريسة لبطش من هو أقوى منه. وبالتالى أنا لا أركن سيارتى أمام مدخل البيت الذى بجوارى لأننى لو فعلت ذلك فقد أعطيت فرصة لغيرى أن يركن سيارته أمام مدخل بيتى. وهكذا لو رفعت صوت الموسيقى من بيتى، فهذه رخصة للآخرين بأن يفعلوا المثل، ولما ارتاح مريض قط. ورائد هذه المدرسة بامتياز فى الفكر الغربى كانط وقد سبقه فى الفكر العربى ابن رشد وابن سينا.


وهناك مدرسة ثانية ترى أن المصدر الرئيسى للإلزام الخلقى هو المجتمع. فحينما يتراضى مجتمع ما على مجموعة من القيم والمبادئ فإنها تصبح أخلاقه بمثابة الهواء الذى يتنفسه، فلماذا لا أذهب إلى الجامعة بلباس النوم الرجالى على الرغم من أنه يستر كامل العورة؟ لأن المجتمع تراضى على أن ملابس النوم للمنزل وليست للعمل. وهكذا، فحينما يسرى فى مجتمع ما ثقافة ختان الإناث مثلا فإن المجتمع يجعل من هذه العادة خلقا من يحيد عنه فقد أخطأ.

ويرى أنصار هذه المدرسة أن قوة المجتمع أقوى من قوة العقل كمصدر للإلزام الخلقى إلا إذا كانت هناك قوة تملك أن تحول العقل وما يمليه إلى قوانين مكتوبة ونافذة فى المجتمع. وعليه فإن قال المجتمع بعادة ختان الإناث فإن العقل، مترجما فى قوانين الدولة وحسن إدارتها لأدواتها، يقف للمجتمع رادعا ومقوما. ومن هنا جاءت مقولة: «الحاكم المستنير».

فاستنارته لا تفهم إلا فى ضوء أنه لا يعتبر نفسه أسير المجتمع الذى يحكمه، وإنما هو مصلح له مستخدما سلاح العقل وأدوات الإكراه المشروع التى تملكها الدولة. وهو ما جعل فريدريك الثانى فى روسيا، وجورج واشنطن فى الولايات المتحدة، وأحمد بن طولون ومحمد على فى مصر أقوى من المجتمعات التى عاشوا فيه وكانوا إضافة لها حين غيروها.

بيد أن يحيى حقى أشار فى روايته العبقرية «قنديل أم هاشم» لقصة الدكتور إسماعيل الذى ذهب إلى الغرب ليتعلم طب العيون وعاد إلى بيئته التى اعتادت على علاج أمراض العيون بزيت القنديل، قنديل أم هاشم، تبركا وأملا فى الشفاء. وهنا كان الصراع بين مصدرين من مصادر الإلزام الخلقى: العقل ممثلا فى العلم، والمجتمع متمثلا فى الخرافة. وقد اصطدم العلم بالخرافة، وكاد الدكتور إسماعيل يفقد حياته ظنا من العامة أنه خرج عن الدين لرفضه استخدام زيت القنديل.

لكن العالم الحق حكيم يعرف أن من واجبات العلم أن يستوعب الخرافة ليقضى عليها. وقد فعلها بطل «قنديل أم هاشم» بأن وضع العلاج الطبى السليم فى زجاجات تشبه الزجاجات التى كان يضع فيها المخرفون زيت القنديل وأوهم الناس، أو هكذا فعل، أنه يعالجهم بزيت القنديل.

وحينما اطمأن الناس له، وللعلم الذى أتى به وللعقل الذى يمثله، كان عليه أن يصارحهم بأن علاجه الموضوع فى زجاجة الزيت ما هو إلا نتاج العلم والطب والمعرفة، وهكذا فإن للعلم بيئته التى تحترم العقل ابتداء، فمحاولة استخدام العلم فى علاج مشكلات مجتمع لا يحترم العلم، هى محاولة غير علمية بل غير عقلانية فى حد ذاتها.

إذن فالعقل كمصدر للإلزام الخلقى ينبغى أن يقود المجتمع، لكنه لن يفعل إلا إذا حكم وساد وسيطر على أجهزة الدولة والمجتمع معا حتى يواجه قرونا من الخرافة والغيبيات اللاإيمانية.

وقد لاحظت خللا بنفسى مع طلابى فى الجامعة حين أرى فيهم اتكالية ابتدعوها ونسبوها ظلما للإسلام. وقد كانت قضية «القوة التدميرية للحسد» مناطا للنقاش مع بعضهم. فتساءلت: هل من الممكن أن أنظر إلى مبنى شاهق نظرة حسد فيتحول إلى كومة من التراب؟ وهل يمكن أن نرسل إلى إسرائيل 100 حاسدة فيدمرنها بنظرات العين وكلمات اللسان؟

ولو كان هذا الاختراع مقبولا، فلماذا لم يكتشفه غيرنا من أبناء الحضارات الأخرى؟ الحسد موجود ونؤمن به كمرض من أمراض القلوب، كما نص القرآن الكريم، أما إذا لم يتبعه صاحبه بكيد وفعل يحول الشعور الذاتى إلى طاقة تدمر الآخرين فلا قدرة له على التدمير أو النيل منهم، وإنما يظل شعورا يأكل صاحبه، حتى وإن ساد فى ثقافة المجتمع ما يشير إلى غير ذلك. فيضع صاحب السيارة الجديدة خرزة زرقاء كى «تأخذ العين».

هذا يترك لمقال الأسبوع المقبل فرصة مناقشة المصدرين الآخرين مع تطبيقات مباشرة على أوضاعنا المصرية.

Friday, June 5, 2009

كيف نعوض ما فاتنا فى مسار الحكم وإدارة شئون الدولة؟

بقلم: معتز بالله عبد الفتاح

5 يونيو 2009 07:56:34 م بتوقيت القاهرة

رابط المقال اﻷصلي

واحدة من وظائف العلم أن يحول ما هو استثنائى إلى قوانين، وما هو خارق للعادة إلى قواعد حاكمة. فلا شك أن أول طيار كان شخصا معجزا بمعايير عصره، أما الآن فقواعد الطياران مسألة يتم تعلمها فى معاهد متخصصة على نحو جعل قيادة الطائرة مهنة كأى مهنة أخرى فى قواعدها ومهاراتها. وهكذا الأمر فى بناء المؤسسات التى تنهض بالدول وتعالج مشكلات المجتمع حيث توجد مقررات دراسية متخصصة فى الهندسة المؤسسية وقواعد إدارة شئون الحكم بناء على التجارب الناجحة والفاشلة فى قطاعات العمل العام المختلفة. فما أنجزه مهاتير محمد فى ماليزيا أصبح جزءا من معرفة إنسانية يمكن تكرارها لمن يفهم ويستوعب خبرته فى هذا المقام.

هذه كانت المقدمة، أما متن الموضوع، فهو مناقشة ما انتهى إليه مقال الأسبوع الماضى من البحث فى كيفية نهضة الدول وانتقالها من حالة التخلف إلى حالة التقدم فى مسار الحكم وإدارة شئون الدولة. وحتى لا يبدو الأمر اختراعا لا أصل له، فمن حق القارئ أن يعرف مثلا أن كاتب هذه السطور يقوم بتدريس مادة على مستوى الدكتوراه لمناقشة «الاقتصاد السياسى للتنمية» وهى مادة ثرية بتجارب الدول المختلفة التى حققت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أسف فإنه باستثناء ماليزيا وتركيا فإن ما يمكن أن نتعلمه من المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة قليل.

ولكن من المفارقات أن دولة مثل السودان لها من الإمكانات الطبيعية ما يفوق ما لدى ماليزيا عشرات المرات، كما أن البنية العرقية والانقسامات الأولية لدى الدولتين متقاربتان بشدة. لكن شتان ما بين الدور الذى لعبته القيادة السياسية فى كل من الدولتين. وهو ما جعلت كلاسيكيات العلوم السياسية تصنف القيادة كواحدة من أهم عناصر قوة أو ضعف الدولة. وقصارى القول، فإن الدول التى نهضت تجمعها عدة خصائص تبدأ من قيادة ذات رؤية عصرية قادرة على استيعاب التحديات وبناء مؤسسات قادرة على مواجهتها. والحديث عن بناء المؤسسات هو بالضبط كالحديث عن تحويل ما هو استثنائى إلى قانون وما هو خارق للعدالة إلى قواعد حاكمة. فلو نجحت تجربة ما، فلا بد من مأسستها، أى تحويلها إلى قواعد مؤسسية قابلة للتكرار.

بل إن الإدارة الناجحة للمؤسسات تلعب دورا مهما فى تغيير الثقافة السائدة فى المجتمع، فتصورات المواطنين عن مجتمعهم ودورهم فيه يزيد وينقص بقدر ثقة المواطنين فى قدرة مؤسسات الدولة على أن تنهض بمسئولياتها وأن تضمن لهم صوتا مسموعا وحقوقا مشروعة. وحتى لا يكون الكلام نظريا أكثر من ذلك فإن مجتمعاتنا بحاجة لبناء واحترام القواعد الحاكمة لمؤسسات ست تتسم جميعها بالاستقلال والمهنية. وهذه المؤسسات الست هى:

1 ــ قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية سواء بتدخلها المباشر عن طريق التعيين أو بمحاولة الإغواء بالمنح والمنع؛ لأن القضاء المشكوك فى نزاهته يعنى انهيار القانون وشيوع الفساد. وبدلا من تعديل كل هذه المواد من الدستور المصرى، كان من الأهم تعديل المادة 93 من الدستور الخاصة بحق مجلس الشعب فى الفصل فى صحة عضوية أعضائه بعد الاطلاع على تقارير محكمة النقض، بما يجعل من المجلس خصما وحكما فى صحة العضوية على نحو يتيح للأغلبية الحق فى التخلص من القوى النابضة فى المعارضة، ومن ثم تدجين الكثير من العناصر التى لها حصانة برلمانية بحكم المنصب وفقا للدستور. فلو كان حكم القضاء وحده يكفى فى التخلص من المزورين، لكان لدينا برلمان يعبر حقيقة عن إرادة الناخبين. ولا يكفى، والأمر كذلك، أن يعلن رئيس الدولة احترامه لاستقلال القضاء، لأنه كم من أمور يعلنها الرئيس وتضرب بها الحكومة عرض الحائط فيما يبدو وكأنه توزيع أدوار بين الرئيس الذى يقول ويعد وجهازه التنفيذى الذى يعرف أن ليس كل ما يعلنه الرئيس يعنى التنفيذ. وأفضل النماذج بين دول الجنوب فى مهنية واستقلال القضاء تأتى من الإصلاحات القضائية التى شهدتها شيلى فى آخر عشرين عاما.

2 ــ بنك مركزى مستقل يعمل على الاستقرار النقدى والاقتصادى ويخضع فى ذات الوقت لرقابة صارمة من البرلمان؛ لأنه المسيطر على قرارات ترتبط بتدفق الأموال المتاحة للاستثمار والاستهلاك من خلال أداتى سعر الفائدة وسعر إعادة الخصم، فضلا عن أنه القابض على الاحتياطى النقدى وأموال الحكومة وإصدار البنكنوت، فضلا عن أن فساد القائمين عليه يجعله بابا دوارا لأموال الفساد بتحويلها للخارج. ويقدم البنك المركزى لكوريا الجنوبية واحدا من أفضل النماذج فى هذا الصدد.

3 ــ وجود وسائل إعلام وصحافة مستقلة ومهنية؛ لأنها الضامن لتدفق المعلومات الدقيقة والأفكار الجديدة فى المجتمع. إن تاريخ المؤسسات الإعلامية والصحفية المملوكة للدولة فى كل دول العالم المتخلفة يؤكد أنها الأقل قدرة على فضح الاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان والأكثر استعدادا للمبالغة فى الإنجاز والاستبسال فى الدفاع عن تحالف السلطة والثروة والإكراه المفضى إلى الفساد. وحين ندرس تجارب دول الجنوب الأخرى فإن جنوب أفريقيا تقدم المثال الأفضل فى استقلال ومهنية مؤسسات الإعلام.

4 ــ إنشاء لجنة انتخابية مستقلة ومحصنة ونافذة تشرف على العملية الانتخابية من بدايتها وحتى نهايتها. ولكل صفة من الصفات الثلاث معنى يستحق التأمل، فهى مستقلة بحكم القانون عن أى حزب أو جهة أعلى منها، وهى محصنة من التدخلات السياسية لمن هم فى موقع السلطة، وهى نافذة أى قادرة على اتخاذ قرارات تصل إلى حد إلغاء الانتخابات إن كان فيها شبهة تزوير أو بيع أو شراء. ويكون عادة القضاة المنتخبون هم الأفضل للقيام بهذه المهام. وهو تحدٍ يتطلب رغبة أكيدة فى بناء دولة يكون فيها القانون فوق أشخاص الدولة بعيدا عن الشللية والمحسوبية ومحاباة من بيدهم المال والسلطان. ولنا فى الهند الكثير من العبر والدروس فى هذا المقام.

5 ــ جهاز خدمة إدارى مدنى يقوم بدوره فى تنفيذ السياسة العامة للدولة على أساس من الكفاية والكفاءة. والمقصود بالكفاية أن يكون موظفو الدولة فى وضع اقتصادى يسمح لهم باحترام القوانين والسهر على تنفيذها دون الحاجة للرشاوى والإكراميات مع تغليظ العقوبة لأقصى درجة ممكنة بحيث يعود للموظف العام مكانته ودوره الأصيل فى خدمة المجتمع وتنفيذ السياسة العامة للدولة. أما الكفاءة فهى مسألة تدريب وتأهيل مع استعداد لتبنى نموذج ساعات العمل الممتدة ليلا وفى الإجازات بما يساعد على الاستفادة من الطاقة العاطلة من الموظفين. وهو ما لايبدو أن الدولة المصرية فى تاريخنا هذا قد أنجزته وبما يضع عبئا ضخما على نخبة المستقبل لمواجهته. وهنا يبرز مثال تايوان تحديدا كأفضل الأمثلة لجهاز الخدمة المدنى الذى يتمتع بالكفاية والكفاءة.

6 ــ الاستقلال المهنى لأجهزة القمع المشروع «القوات المسلحة والشرطة» فلا ينبغى أن يكون فى الدولة إلا جيش واحد وجهاز شرطة واحد ولا مجال لأى قوى مسلحة أخرى داخل حدود الدولة. ويحسب للرئيس مبارك أنه حقق درجة عالية من مهنية القوات المسلحة المصرية بحيث تبتعد عن أى دور سياسى مباشر كمؤسسة، بيد أن هذا الأمر لا ينطبق على الإطلاق على الشرطة المصرية التى تمارس دورا سياسيا متصاعدا فى تأمين استمرار الحزب الوطنى فى الحكم سواء بمنع الناخبين من التصويت فى الانتخابات أو المرشحين المعارضين من استكمال عمليات الترشيح أو اعتقال المعارضين الذين يخرجون عن نطاق «الكلام» إلى نطاق الفعل، بما جعل البعض يتحدث عن عودة «الدولة البوليسية» التى كنا نظن أننا ودعناها. وتقدم جمهورية التشيك نموذجا ناجحا فى تحقيق هذا الاستقلال المهنى لأجهزة القمع داخل الدولة. إن تراجع عدد كبير من المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، ومن ضمنها مصر، فى مسار السياسة والحكم وإدارة شئون الدولة يقتضى الاجتهاد بشدة من أجل تحقيق مهنية واستقلال هذه المؤسسات عن سيطرة الأحزاب والأسر الحاكمة، وإلا سنظل نعيش فى مجتمعات اقطاعية المضمون تأخذ من الحداثة قشورها، ويحلم أبناؤها بما لا يستطيعون.