Thursday, September 2, 2010

أصول العقل الأمريكي وتطبيقاته الاقتصادية والسياسية والعسكرية

بقلم د ماجد عرسان الكيلاني
الأصل المعيشي أو مفهوم الحياة:

العلاقة التي تقيمها الفلسفات الأمريكية المعاصرة بين الإنسان والحياة هي علاقة المتعة والاستهلاك. والأمريكي يسر بلذة الاستهلاك إلى درجة العمى عن الإثم والفحشاء. ولذلك يتجاوز البحث عن اللذة ميادين المباح إلى اقتراف الحرام والسخرية من الحلال.
ونتيجة لهذا التصور تكاملت مؤسسات التربية والإعلام والسياسة في إخراج الإنسان المنتج – المستهلك، وصارت شبكة علاقاته الاجتماعية في الداخل وشبكة علاقاته الإنسانية مع الخارج محكومة بهذه النظرة.
ومع أن التربية الأمريكية قد نجحت إلى حد كبير وغير مسبوق في رفع كفاءة الفرد الإنتاجية والاستهلاكية إلا أنها – وهي تعمل لتوفير المتعة المنشودة له – خلقت له بدلها مشكلات اجتماعية وأخطاراً بيئية وصحية وسياسية تنذر بتدمير البيئة المحيطة به وتدمير حياته.

فمنذ عقد الثمانينات – من القرن الماضي – بدأ علماء البيئة Ecologists يطلقون التحذيرات من الأخطار التي تهدد البيئة الطبيعية في الكرة الأرضية قاطبة نتيجة لعمليات الإنتاج والاستهلاك المسرفة المفرطة. وتوالت الدراسات المرعبة عن آثار التلوث ونفايات المصانع والشركات في القارة الأمريكية، ومن الذين انتقدوا الإسراف في تدمير البيئة عالم البيئة الشهير – رينيه دوبر – الذي وصف القائمين على إدارة الحياة الأمريكية بمختلف أشكالها بالجنون والجريمة. ومن أقواله في هذا الشأن:

(يجب اعتبار أكثر الناس في أقطار المدينة الغربية – وخاصة أمريكا المعاصرة – من الجانحين، لأنهم يتصرفون وكأن المقياس الوحيد للسلوك هو إرضاء رغباتهم وغرائزهم الآنية دون النظر إلى عواقب ذلك على الطبيعة والذراري).

وانتشر التذمر من تلوث البيئة حتى أن – المستر ألجور – مرشح الديموقراطيين ضد الرئيس بوش الابن قام بتأليف كتاب عن هذا الموضوع وجعله أحد عناصر برنامجه الانتخابي. وإزاء هذه الحملات المستمرة الداعية إلى حماية البيئة الطبيعية ظهر الوعي لدى الشعب الأمريكي – ومثله غرب أوروبا – بخطورة ثقافة الاستهلاك بيئياًّ واجتماعياًّ، فقررت الإدارات الغربية – وعلى رأسها الإدارة الأمريكية – نقل الصناعات الاستهلاكية كالأغذية والملابس والزينة وأدوات البناء والإلكترونيات والسيارات والأثاث ومواد الأبنية إلى أقطار العالم الثالث مقابل أسهم قليلة تقدمها للحكام وحاشيتهم ووكلائهم في التوزيع.

وفي المقابل تم تدمير الاقتصاد المحلي لصالح اقتصاد الشركات العالمية الكبرى، ولتأمين القسط الأكبر من النجاح أعيد صياغة قوانين الصناعة والتجارة وبرامج التربية والتعليم والإدارة المحلية، وتوقف تعليم إنسان المنطقة المحلية لسوق العمل المحلي وتنمية موارده المحلية في الزراعة وتربية المواشي والصناعات المحلية وتطوير الأرض، واستبدل بذلك تعليم يركز على المهارات التي يحتاجها اقتصاد الشركات وأسواقه من مهارات السكرتارية والتسويق وفنون البيع وهو ما يسمى بـ (اقتصاد العولمة)، وصار يجند السكان المحليين بأرخص الأجور وينمي اتجاهاتهم على ثقافة الاستهلاك ليسترجع الأجور التي تسلموها.

كذلك جرى تقسيم الصناعات إلى قسمين: قسم يعاد تصديره إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية، وهذا تراعى فيه معايير الجودة الرفيعة وقسم تهمل فيه هذه المعايير ويوزع في الأسواق المحلية لبلدان العالم الثالث التي يجري التصنيع على أرضها. باستثناء الصناعات الدقيقة كالأسلحة المتطورة والتقنيات التي تضمن التفوق للدول الكبرى. ثم تكون محصلة سياسة (اقتصاد العولمة) هذه أن تحفظ الدول الكبرى أقطارها بعيداً عن أخطار التلوث البيئي وتحول سكان العالم الثالث إلى طبقة عمالية (برولتاريا) عالمية.
والآن ينتشر التلوث وتخرب البيئة في العالم الثالث، ولما كانت المصنوعات التي تطرح في الأسواق المحلية أقل جودة مما كانت عليه في أمريكا فقد ظهرت إلى جانب مشكلات التلوث أمراض جديدة صحية وأمراض اجتماعية وتفكك الأسرة وتمزقها في الأرض كل ممزق سعياً وراء الرزق، وكانت خلاصة ذلك ظهور ما عرف بـ (العولمة) التي تروض شعوب العالم للعمل والاستهلاك مع بقاء أوروبا وأمريكا نظيفة جميلة للرأسماليين وإدارتهم. وهنا تحسن الإشارة إلى أن (العولمة) Globalization غير (العالمية) Globalism.
فالعولمة نظام دولي مصنوع، صنعه الإنسان الغربي كأداة من أدوات الصراع والغارة على العالم. أما العالمية فهي ظاهرة خَلقية، - بفتح الخاء – طبيعية خلقها الله تمهيداً لتكون رسالته في متناول سمع الجميع وبصرهم، وهو ما يشير إليه طابع الصراع القائم بين المكر الإلهي والمكر الأمريكي – الصهيوني.
الأصل الديني:

منذ أن وطأت أقدام المستعمرين الأوروبيين أمريكا ودخلوا في صراع دموي مرير مع الهنود الحمر سكان القارة الأصليين، وجد رجال الدين أنفسهم في خدمة الحرب الجديدة. وعندما انطلقت دعوة – الدارونية الاجتماعية – وجدت الكنيسة فيها مبرراً لهذه الخدمة العسكرية رغم معارضتها لها من الناحية العقائدية. وكان من بين رجال الدين الأمريكان الذين اعتنقوا الدارونية الاجتماعية عدد غير قليل، فخذ مثلاً لهم الكاهن – جوسيان سترونج – الذي قال:

((إنه طبقاً لصراع وتفوق النوع الأنجلو –سكسوني يظهر في أمريكا نوع من الناس كبار الأجسام أقوياء فارعي الطول. وقال: إن العنصر الأمريكي سوف يملأ القارة ويزحف نحو الأقطار الأخرى في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وما وراءها. وستكون نتيجة هذا الزحف تفوقه والقضاء على الأجناس الأخرى لأن البقاء للأصلح)).

ولقد تطور الفكر الديني – الداروني الأمريكي في كل مرحلة تاريخية حسب تطور سياسات الدولة فصارت البعثات التبشيرية وجهودها التعليمية جزءاً من القوة الأمريكية الغازية، وما زالت الكنيسة الأمريكية تتطور بتطور سياسات الدولة في الداخل والخارج. ففي الداخل أصدرت الكنيسة المراسيم التي تبرر جميع الممارسات التي يقرها التشريع الحكومي حتى الاعتراف باللوطيين والمتساحقات المعروفين والمعروفات باسمي Gay and Lesbians.

وفي الخارج حينما يوجد لأمريكا مطامع سياسية واقتصادية تكون البعثات التبشيرية إحدى أدواتها التي تستر جرائمها الدموية بالمساعدات الإنسانية، كما حدث في الجزر الإندونيسية ويحدث الآن في شمال العراق وأفغانستان وجنوب السودان وغيرها.
كذلك انعكست فكرة التطور الاجتماعي الداروني على محتويات الدين نفسه فصارت المسيحية الأمريكية تطور نصوصها ومصطلحاتها طبقاً للأهداف العلمانية – الدنيوية المتطورة. وكان من ثمار هذا التطور ظهور مايسمى بـ - الكتاب المقدس الأمريكي The American Bible الذي جرى تعديله بناءً على طلب الحركة النسائية التي تقول بالصراع بين الجنسين، والتي احتجت بالقول أن اسم الإله في الكتاب المقدس اسم مذكر، هذا إلى جانب احتجاج الشاذين والشاذات جنسياًّ الذين طالبوا بحذف النصوص التي تدين هذا الشذوذ. وكان من نتائج تطبيق فكرة التطور الداروني على الدين أن اعترف القضاء الأمريكي بتطور الأسرة الشرعية إلى أربعة أنواع من الأسر، وكان من نتيجته أيضاً أن صار في أمريكا الآن حوالي ألفي مذهب بعضها يعلن عن حفلة راقصة قبيل الصلاة جذباً للشباب والشابات، وبعضها يدعو لعبادة الله عراة في الكنيسة لأن الإنسان برز إلى هذه الدنيا عارياً.

على أن أبرز الجماعات المسيحية العاملة على الساحة السياسية في أمريكا هي التي تسمى – الأكثرية الأخلاقيةMoral Majority ويرأسها الكاهن الشهير – جيري فولول Jerry Falwell – وهو مذهب يشتغل بالسياسة وينتسب إليه غالب قيادات الحزب الجمهوري ومنهم الرئيس ريجان، والرئيس بوش الأب، والرئيس بوش الابن. ويركز نشاطاته الدينية حول توفير التبريرات الدينية للسياسات الداعمة لإسرائيل التي يسميها – جيري فولول – (إسرائيل المعجزة).

وخلاصة معتقدات هذا المذهب حسب ما جاء في كتاب – اسمعي يا أمريكا Listen America – كالآتي:

1. من أكبر المعجزات في العصر الحديث هي فعل الإله المتجسد في نصرته للشعب الصغير (شعب إسرائيل) الذي يقف منارة ديموقراطية في منطقة مظلمة بالتخلف والتوحش والأنظمة التعسفية المتعطشة للبطش بإسرائيل.
2. من يقرأ الكتاب المقدس يجده مليئاً بالتنبؤات المتعلقة بإسرائيل والتي تقول: بعد شتات دام حوالي 500 عام سيعود اليهود من أقطار الأرض ويؤسسون دولتهم في فلسطين.
3. لا توجد أمة اضطهدت اليهود إلا وعاقبها الإله بالضعف الأبدي. وهذا هو وعد الإله لإبراهيم، وهو ما تزال ألمانيا تعاني منها بسبب مناصرتها لسياسات هتلر ضد اليهود، وكما حدث مع جمال عبدالناصر عام 1967.
4. إن الله سيرسل للتشريد والذبح والأسر كل الملايين العربية التي ستحاول منع تجمع شعب إسرائيل في أرضه.
5. لقد بارك الإله أمريكا ورفع مكانتها لأنها باركت قيام إسرائيل وناصرتها وقوض روسيا لأنها عادت إسرائيل وناصرت أعداءها. (19)
هذه هي خلاصة تعاليم – حزب الأكثرية الأخلاقية – في أمريكا الذي يطلق عليه اسم – Moral Majority- والذي صار يهيمن على سياسة الحكومة الأمريكية منذ أيام الرئيس ريجان واستمرت تأثيراته زمن الرئيس بوش الأب ثم الرئيس بوش الابن، الذي أعلناه صريحة: صليبية القرن الحادي والعشرين.
خامساً: أصل القيم في العقل الأمريكي:
يصنف المختصون القيم تصنيفات مختلفة نختار منها التصنيف القائل: القيم ثلاثة أصناف: قيم جمالية – أي التي يكون الجمال محور معاييرها. وقيم ذرائعية – أي التي تكون الذرائع هي محور معاييرها. وقيم أخلاقية – أي التي تكون الأخلاق الحسنة محور معاييرها.
ويتذبذب السلوك الأمريكي بين النوعين الأولين وينسى نسياناً كلياًّ النوع الثالث وهو – القيم الأخلاقية . ولذلك حقق الأمريكي تقدماً هائلاً في ميادين القيم الجمالية والذرائعية التي برزت آثارها في تزيين المدن والأماكن العامة وكثير من مظاهر الذوق العام والتعامل الإداري وسرعة إنجاز العمل، ولكنه أخفق إخفاقاً عميقاً في ميدان القيم الأخلاقية. وتبرز شواهد هذا الفشل في سوء استعمال الأشياء والذرائع الجميلة الفعالة ابتداءً من الاستعمالات اليومية من الأسلحة النووية وناطحات السحاب وتطوير المدن ووسائل الاتصال والمواصلات. فالمبدأ الأخلاقي – أو القيمة الأخلاقية – غائبة تمام الغياب عن توجيه الاستعمالات السيئة والفاحشة، والمنكرة، والشريرة لهذه الأشياء المتقدمة – المتطورة.
ولقد عالج الكثير من الباحثين والمختصين من الأمريكان أنفسهم أزمة القيم القائمة واعتبروها أكثر المشكلات الإنسانية إلحاحاً وتعقيداً وحيرة. فمنهم من ينتقد – مناهج التربية – ويقول إنها تركز على الحقائق وتهمل القيم، ولذلك أفرزت إنساناً محايداً إزاء القضايا الاجتماعية، وجعلت القرارات التي يتخذها في ميادين الأخلاق والدين وعلاقات الجماعات والقوميات الوطنية تحكمها ردود الفعل العاطفية العمياء والتعصب العنصري والعقد النفسية.
كذلك يعتقد الكثير من المربين أن التربية الأمريكية قد فشلت في تنمية القيم الإنسانية وانصرفت لتنمية مهارات الإنسان العقلية والبدنية في تطوير – وسائل الحياة – في الوقت الذي أهملت الموضوعات المتعلقة بـ - غايات الحياة – وأموره المصيرية ومشكلاته الرئيسية.
وبناءً على ما تقدم يرى – ماير M. Meyer – أن على التربية أن تعمل لوضع العلم في خدمة – قيم وأخلاق جديدة – ويرى – براملد T.Brameld أن التربية الأمريكية تدع الناشئة بدون قيم لأنها تبالغ في حيادها العلمي وتميل إلى خزن القيم في مخزنها التربوي. (20)
وتعلق – هيلدا طابا – على ذلك بالقول أن التربية تحتاج إلى فكر جديد وطرائق جديدة تعطي القيم ما تحتاجه من عناية واهتمام لمراجعة مشكلات العصر، ويتطلب تطوير هذه الأفكار والطرائق مفاهيم جديدة عن العلاقات الإنسانية والأهداف الاجتماعية. (21)
ولقد برزت نتائج هذا التخبط والغموض بالنسبة للقيم والأخلاق فيما تمارسه المؤسسة السياسية الأمريكية في العالم، وفي الأمم المتحدة، وفي صياغة العلاقات الشاذة التي تحاول إقامتها مع مختلف الدول وفي المواقف المتناقضة إزاء القضايا الدولية المختلفة.
ولقد حاول بعض المفكرين الاجتماعيين والتربويين معالجة – أزمة القيم – القائمة في المجتمع الأمريكي. ومثال ذلك – ماركلي – الذي قام بأمرين :
الأول بـ تشخيص ما أسماه بـ (القيم البالية) التي قام عليها المجتمع الصناعي ودولته.
والثاني بـ رسم الخطوط العريضة للقيم التي يحتاجها مجتمع ما بعد الطور الصناعي القادم Postindustrial Society.
أما عن – القيم البالية – فقد ذكر أنها تتمثل فيما يلي:

1. إن تقدم الإنسان يتمثل بالنمو الاقتصادي والاستهلاك المتزايد.
2. إن الجنس البشري منفصل عن الطبيعة وإن قدر الإنسان هو قهرها.
3. إن الكفاءة الاقتصادية والانتفاض العلمي – أي انتفاضة لحرمة الإنسان وكرامته – هما أكثر المناهج صحة لتحقيق أهداف الإنسانية.
أما عن الأمر الثاني فقد ذكر – ماركلي – أن المجتمع القادم يتطلب (تصوراً جديداً عن الجنس البشري) وأن (صورة الإنسان) الملائمة لعصر ما بعد التطور الصناعي سوف تتضمن ستة شروط هي:
1. قيم بيئية تؤكد على وحدة الحياة ووحدة الجنس البشري.
2. قيم تحقيق الذات.
3. ثقافة متعددة المستويات والمظاهر المتكاملة وتتسع لأنواع الشخصيات.
4. نمط حياة تقوم على الاكتفاء المتوازن والتعاون خلال أبعاد متنوعة بدل البعد الواحد الضيق كالبعد الاقتصادي.
5. تصور شامل للوجود.
6. تصور تجريبي منفتح العقل وقابل للتطور.
ويعلل – هاري شوفيلد – فقر المجتمع الأمريكي إلى القيم الإنسانية بالقول أن هذا الفقر ينسجم مع التطور التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية. ففي أيام التوسع نحو غرب القارة الأمريكية لم يكن هناك ما يلائم الاحتكام إلى القيم المثالية الأخلاقية مثل: (لاتقتل)! ذلك أن الواقع الذي برز آنذاك هو إما أن يكون الأمريكي قاتلاً أو مقتولاً، ولذلك أصبحت (القيم الصائبة) هي قتل الهنود الحمر. وفي هذه الحالة يكون القاتل أفضل من المقتول. (22)
وهذا الفقر في القيم يقلل من أثر – المبدأ الأخلاقي – في علاقات الأمريكي بغيره من الأفراد والدول لصالح – الذوق الجمالي – وهو هنا مقدار ما يحصل عليه الإنسان من متع ولذائذ يعبر عنها بأسماء مختلفة مثل: (التنمية الاجتماعية) و (مجتمع الرفاهية).
في إطار هذا المفهوم يتحدد كذلك مفهوم الحرية وممارساتها التي يختلط فيها النظام بالفوضى والأخلاق بالإباحية، والرفعة بالسقوط.
والمحصلة التي ينتهي إليها هذا الاستعراض الموجز لأصول العقل الأمريكي ومنابعه ومساراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، هي أنه لا معايير أخلاقية وإنسانية يمكن لهذا العقل ومن يحاوره أن يلجأ إليها إلا أسلوب الصراع والبقاء للأقوى الذي جسده ثقافة رعاة البقر (الكاوبوي) في سنوات الهجرة الأولى على أمريكا، وتجسدها الآن طائرات الأباتشي، وأسلحة التدمير الشامل والصواريخ العابرة للقارات والقنابل الحرارية. وتشير التجارب الماضية والحاضرة أن العقل الأمريكي والثقافة الأمريكية وقعاً تحت عمل سنة الله القائلة: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة). فهو لا يريد أن يسمع إلا ما يريد سماعه ولا يبصر إلا ما يهوى إبصاره، ولا يعقل إلا ما تقرره شهوته الموقوتة. ولذلك ليس للعالم أن يتوقع من أمريكا إلا سياسات الأذى والعدوان والإثم ونهب الثروات والاعتداء على الحرمات بعد أن تترجم شهواتها المحركة لاقتراف ذلك إلى (قوانين) دولية، و (شعارات) أممية مثل القول: (قرارات مجلس الأمن)، (الشرعية الدولية) وأمثال ذلك.

لذلك من العبث أن يضيع العرب والمسلمون أوقاتهم في الحج إلى واشنطن، والطواف بالبيت الأبيض، والتلبية في الكونغرس، ومناشدة الشعب الأمريكي، ومن الأفضل لهم أن يركزوا جهودهم لتحقيق أمور أربعة:

1. بناء الجبهة الداخلية بناء لا تقل متطلباته عن التضحية بدول التجزئة من أجل دولة الوحدة، وبالسلطة الفردية المطلقة، من أجل سيادة الأمة الواحدة، وبالسياسات الظالمة من أجل العدل، وبالدنيا من أجل الآخرة، وبحظوظ النفس من أجل مراد الله تعالى.
2. الاعتصام بحبل الله وحده بعد أن أثبتت الوقائع الجارية على الأرض وفي المحافل الدولية أن ليس للعرب والمسلمين من دون الله من ولي ولا نصير. ثم القيام بحملة دعوية إسلامية عالمية في أمريكا وغيرها من محاور الطغيان، حملة غايتها إعادة هذا المغولي الجديد إلى إنسانيته، وتوجيه قوته المفرطة لإنقاذ نفسه وإنقاذ الإنسانية من عواقب (دارونيته الاجتماعية) المدمرة.
3. ولتكون الحملة الدعوية المنشودة فاعلة ومفيدة يجب إنشاء مراكز البحوث والدراسات التي تختص بدراسة منابع (المكر الأمريكي) ومساراته المستقبلية، بقصد التعرف على أساليب تزكيته والخروج من سجن الشهوات إلى حرية النظر، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن عبادة البترول والدولار إلى عبادة الله وحده.
وخلال هذه الحملة الدعوية الهادفة إلى نشر الإيمان بالله بين – المغول الأمريكان – ودعوتهم إلى المعروف ونهيهم عن المنكر لا بد من مراعاة ثلاثة أمور هي:
الأمر الأول: إن ما يصيبنا من أذى مرير على يد هذا – المغولي الجديد – إنما هو تسليط إلهي سببه تقصيرنا على حمل دعوة الله إليه، فعندما عقدنا الذهاب إليه، وأنفقنا مال الله في بناء القصور ومتع الدنيا، بعثه الله علينا ليدمر ما علا تدميراً. وقديماً سئل الصحابي الجليل كعب بن أبي عن معنى قوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون). (السجدة –20) فأجاب: العذاب الأدنى: تسليط الروم. والأمريكان والأوربيون هم امتدادات للروم وجيل من أجيالهم. ومنذ أكثر من قرنين، والله يذيقنا من عذابهم دون أن ننتبه للنداء الإلهي ونتنادى بالرجوع إليه سبحانه وتعالى.

الأمر الثاني: هو الصبر على أذى هذا المغولي الجديد، والتحوط من أن يصاب بمرضه، مرض الصراع والبقاء للأقوى، صبراً يفوق صبر تلامذة المسيح على أذى الرومان أسلاف الأمريكان.
الأمر الثالث: هو الحذر الدائم المبصر من – نموذج الإسلام – الذي تريده لنا أمريكا وإسرائيل، ويطالبان حكومات العرب والمسلمين بإخراجه وتعديل مناهج التعليم لتلقينه إلى الأجيال القادمة، تحت ذريعة الحاجة إلى (القضاء على الإرهاب) و (تجفيف منابع التطرف)، كما فعل الإمبراطور قسطنطين الرابع وهو يجبر المجامع المسيحية الأولى على إخراج – مسيحية رومانية – أخضعت الدين للسياسة وإحالته إلى أداة من أدواتها.

الأمر الرابع: أنه مهما قيل عن جبروت أمريكا، وقوتها، ودقة تنظيماتها، وامتداد أذرع مخابراتها العالمية، فعلينا أن لا ننسى – ولو لحظة واحدة – أن الصراع الدائر بيننا وبين أمريكا وإسرائيل إنما تحكمه سنّتان من سنن الله الاجتماعية:
السنة الأولى هي سنة الصراع بين مكر الله – أي تدبيره – ومكر الطغاة وتدبيرهم. ولقد ذكرت تفاصيل هذا الصراع ونتائجه خلال التاريخ الإنساني، في اثني وأربعين موضعاً من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين) (النمل – 50 و 51).
والسنة الثانية، سنة الاستبدال حيث يجري تنفيذ المكر الإلهي من خلال أيدي المؤمنين، فإن لم يتحملوا المسؤولية كاملة تخلى الله عنهم وعزلهم واستبدلهم بقوم غيرهم. ولقد أشير إلى هذه السنة في مواضع متعددة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (محمد – 38). وقوله أيضاً (إلا تنفروا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (التوبة –39).
الأمر الخامس: عدم تبديد الطاقات – خاصة الفكرية والإعلامية – في محاولة إقناع الإدارة الأمريكية ومستشاريه ورجال القرار فيها ومراكز البحوث ورجال الإعلام بـ (حوار الحضارات) بدلاً من (صراعها) و ( تحديد معاني الإرهاب) بدلاً من (تعميمه)، و (التبرء من الإرهاب) بدلاً من (إلصاقه بالعرب والمسلمين)، لأن هذه كلها – مناديل إسبانية حمراء – توضع أمام الثور لإلهائه عن السهام التي تغرز في جسده، وهي شعارات تم اختراعها في المحطة الثالثة من محطات صنع القرار الأمريكي، محطة صنع القرار Decision Making ثم أرسلوها لأجهزة الإعلام لتعبئة الرأي العام في الداخل، وتبرير سياساتها العدوانية في الخارج.
هذه معالم سياسية في البحث عن – أصول العقل الأمريكي وتطبيقاته – استمدت من آيات الله في الآفاق والأنفس في ضوء بصائره في الكتاب، وسيرى الظالمون أي منقلب ينقلبون.