Saturday, November 1, 2008

"الأزمة المالية الأمريكية العالمية، مصيبة أم جريمة؟"..دراسة للدكتور صلاح عبد الكريم

قصة امبراطورية التمويل والديون

"الأزمة المالية الأمريكية العالمية، مصيبة أم جريمة؟"..دراسة للدكتور صلاح عبد الكريم



حزب الوسط الجديد- السبت 01 نوفمبر 2008
مقدمة لكي نفهم أبعاد هذه الأزمة، وما إذا كانت كما يقول كثيرون من الخبراء، أرهاصة انهيار وشيك للنظام المالي والاقتصادي العالمي، أو علي الأقل نهاية للريادة الأمريكية المالية والاقتصادية علي العالم، فإنه يتعين علينا أن ننظر إلى الأسس والقيم التي بني عليها هذا النظام ، لنحكم بأنفسنا علي حقيقة هذه الأزمة وكيفية الخروج منها لصالحنا ولصالح البشرية. ومنذ حدوث الأزمة، بل وحتى قبل ظهور إرهاصاتها، تحدث كثيرٌ من خبراء الاقتصاد عنها، شارحين ومحذرين ومقترحين للحلول. لكن الغالب على أحاديثهم ودراساتهم وحلولهم كان النظر إلى الأزمة من داخل سياق علوم الاقتصاد الغربية، مهتدين بالاصول النظرية للفكر الاقتصادي الغربي. وهم لهذا السبب (من وجهة نظري) لا يسهمون في إيجاد حلولٍ حقيقية لهذه الأزمة ، ولا في إخراج الناس من حيرتهم. وإذا فكر الجميع من داخل القفص الحديدي الذي تجد البشرية نفسها فيه رهينة هذا النظام المالي الاقتصادي الذي وضعته الحضارة المادية الغربية، فليس هناك مخرج لا من هذه الأزمة ولا من القفص الحديدي. ونحن لهذا، عند تناولنا لهذه الأزمة، ننطلق بالضرورة من منطلقات مختلفة؛ لأننا لو انطلقنا من نفس المنطلقات، فستصيبنا الحيرة التي أصابت الجميع. أولاً: الهيمنة الأمريكية من خلال التمويل والديون نظامٌ نقدي يقوم على الديون! في النظام النقدي الحديث الذي تفتقت عنه قريحة الحضارة المادية، لا يتم خلق النقود إلا إذا اقترضها أحدهم. نحن جميعاً نتعامل بنقود محملة بديون تدفع عنها فوائد، والنقود الحديثة تنتقل إلي حيز الوجود حال اقتراضها. ويعود أصل رأسُ المال الذي يسعى لتوليد المزيد من نفسه دون أن يقدم أية سلعةٍ حياتيةٍ أو خدميةٍ إلى الربا. ولكن لم يحدث في التاريخ البشري من قبل أن كان هذا الشكل هو النمط المسيطر على تنظيم الحياة الاجتماعية. لقد حدث هذا عندما أصبح المال يدور في دوائرَ مغلقةٍ بين استثمار المال وتوليد الأرباح بحيث أصبح في كل مرحلة من نموه يرتبط بهدفٍ واحد، هو مضاعفة نفسه. ولم يعد هناك الآن أي التزام لرأس المال تجاه أي نظامٍ اجتماعيٍ على وجه الارض. فالأموال تتحرك بحرية وتتزايد وتدخل إلى البلدان كلها وتخرج منها، ليس بغرض دعم الحياة الاجتماعية في الدول المضيفة، بل على النقيض. وحتى الموارد وأشكال الحماية القانونية والسياسية يتم توجيهها لزيادة انتشار هذا السرطان الرأسمالي. العجيب هنا هو أن الجميع مدينون وبلا استثناء بما فيهم الأغنياء، سواءٌ أكانوا رجال أعمالٍ أم شركاتٍ كبرى أم حكومات دولٍ كبرى وعظمى، بل إن الدولة العظمى الوحيدة هي أيضاً في نفس الوقت الدولة المدينة العظمى! لقد استعصى على فهمي أن الجميع مدينون، وبلا استثناء، الجميع! من هو الدائن إذن لكل سكان الكرة الأرضية؟ والحكمة الريفية التي تعلمناها من أجدادنا ويعرفها الجميع هى أن الدين ذل. من هنا يذل من؟ إن كل دول العالم، وكل المؤسسات الصناعية الكبرى في العالم تقريبًا ، ومعظم سكان الدول الصناعية مدينين إلى الجهات التي تصدر النقود، أي البنوك المركزية والبنوك الخاصة والبنوك التجارية... إلخ. إن نظام البنوك الحالي يخلق سلسلة لا تنتهي من الديون والقروض. إننا نعيش في عصر النقودِ المحملة بالديون. وكل المحتوى النقدي سوف يتلاشى إذا حدث أن تم سداد جميع الديون والقروض البنكية. وهذا الأمر يتم إخفاءه عن الجميع! لقد كان من الطبيعي أن تكون آلية إيجاد النقود على رأس الموضوعات الأساسية في مناهج المال والاقتصاد الجامعية، وذلك لأهميتها الشديدة في فهم الاقتصاد. ولكن هذا لا يحدث للأسف. راجع بنفسك تلك المناهج لتتأكذ مما أقول. النظام المصرفي العالمي مملوك لأفرادٍ، ويدار بغرض الربح إذا كان كلامي هذا يصيبك بالحيرة، فأصبر، فسوف تزداد حيرتك كما ازدادت حيرتي عندما علمت أن النظام البنكي الغربي كله بما في ذلك البنوك المركزية وعلي رأسها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (وهم الذين يصدرون العملات النقدية ويحددون معدل الفائدة علي القروض) كلها مملوكة ملكية خاصة لأفراد يمثلون منذ نشأة الحضارة الغربية النخب المتنفذة. والنخب المتنفذة هي خليط وتكتل من رجال المال والبنوك والساسة والملوك والأسر الحاكمة وكبار رجال الصناعة وكبار القادة وبعض كبار العلماء. وهي تدير البنوك المركزية والبنوك والمؤسسات المالية كأي مؤسساتٍ تجارية خاصة أخري، بغرض تحقيق الربح. إن النخب تستخدم النقود لتحقيق سيطرتها علي الأمور، فمن خلال إصدار النقود التي يتعامل بها الجميع، وتحديد سعر الفائدة، وتحديد كمية النقود المطروحة للتداول وتغيير متطلبات ما يسمى بالاحتياطي النقدي الجزئي في البنوك (أي نسبة الودائع إلي القروض الممنوحة) ، تتقلب المجتمعات الإنسانية فيما يسمى بالدورات الاقتصادية بين التضخم والكساد. وإذا أوجدت البنوك كمياتٍ كبيرةٍ من هذا النقد المصطنع فسنكون في رخاءٍ وازدهار؛ وإذا لم يحدث هذا، فسوف نفقد القدرة على التعامل والتبادل مع بعضنا البعض ويعم الكساد. وكلما أوجدت البنوك كمياتٍ متزايدة من هذا النقد المحمل بالفائدة، كلما زاد المحتوى النقدي في المجتمع وزاد التضخم وتآكلت القوة الشرائية للنقود، في نوعٍ عجيب من الضرائب العصرية. وعندما يحاول عدد كبير من الناس استخدام ثرواتهم النقدية في نفس الوقت، أو يحاولوا التخلص مما يسمى بالأصول المالية مثل الأسهم والسندات وغيرها. فإن هذه الثروة النقدية تفقد قيمتها والثقة فيها وتنهار، وتختفي ببساطة لأنها لم تكن موجودة في المقام الأول علي الإطلاق. إن نمو هذه الثروة النقدية وتبادلها وهذا التمدد والانكماش في المحتوى النقدي ، في قلب الأسباب التي أدت إلى ما يسمى بالدورة الاقتصادية بين ازدهار وكساد وهو أساس بنية الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي الهشة. بل إن الحملة الأمريكية الجديدة للهيمنة على العالم تُعتبر فرصة كبيرة لمزيد من الإنفاقات (أي الديون) ولمزيدٍ من الأرباح البنكية ولمزيدٍ من تضخم الدولار بالطبع. أي أن جميع مستخدمي الدولار في جميع أنحاء العالم هم في حقيقة الأمر الممولون الحقيقيون للإمبراطورية الأمريكية الجديدة السافرة من خلال الضرائب المفروضة على الدولار عن طريق التضخم. ولكن إلى متى يمكن أن يدوم النظام المالي الحالي لهذه النقود الغريبة؟ إن الاقتصاد الأمريكي العملاق غارقٌ الآن في القروض مثلهُ في ذلك مثلُ بقية العالم. وقطع الدومينو واقفة في وضع الاستعداد لكي تتساقط. وأيُ حدثٍ يقلصُ من المحتوى النقدي أو يقلل من الثقة في الدولار، سوف يكشف العيوب المتأصلة في هذا النظام المبني على القروض. إن صروحاً مالية هائلة تنهار الآن في لمح البصر، أو يتم شراءها بالملاليم بواسطة مؤسساتٍ أخرى الله وحده يعلم عمق مشاكلها. هل هذه نهاية النظام المالي للرأسمالية الصناعية كما يقولون؟ هل هذه نهاية الريادة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة؟ وإذا كان هذا صحيحا، فهل ستنزوي كقوة عظمى بهدوء كما فعل الاتحاد السوفيتي؟ أم أننا على أعتاب مرحلة جديدة من عدم الاستقرار العالمي يمكن أن تؤدي إلى حروبٍ لا يعلم مداها إلا الله؟ صعود واضمحلال الهيمنة من خلال التمويل ثم القروض وعجز الميزان التجاري خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية بأقوى اقتصاد في العالم، حيث كان انتاجها الصناعي عام 1945 أكثر من ضعف الإنتاج السنوي لدول أوروبا واليابان مجتمعة، ولديها 65% من احتياطي الذهب العالمي. وحلت البنوك والمؤسسات المالية الأمريكية محل مؤسسات مدينة لندن كمصادر للتمويل العالمي (مثلما حدث في مشروع مارشال لتمويل إعادة بناء أوروبا بعد دمار الحرب العالمية الثانية). وتم فرض السيطرة الاقتصادية الأمريكية على العالم من خلال جعل الدولار هو العملة العالمية التي تستخدم في معظم التبادل التجاري، بحيث يتم تسعير السلع به وجعله عملة الاحتياطي العالمي مع التزام أمريكا بتحويله للذهب بسعرٍ متفقٍ عليه، وفرض احترام هذا النظام بالقوة العسكرية. وكانت الخطة تستلزم إنشاء ما يسمى بمنظمات اتفاقية بريتون وودز وهي صندوق النقد والبنك الدولي (أضيفت لهما فيما بعد اتفاقيات الجات ومنظمة التجارة العالمية) لتكون أدوات الإمبراطورية الأمريكية غير السافرة المرتكزة علي الائتمان والتمويل، لأن مطابع الدولار الذي يحتاجه الجميع لشراء السلع موجودة في أمريكا. اضطرت أمريكا إلى الدخول في حروبٍ اقليمية متعددة للمحافظة على هذه السيطرة أدت إلى عسكرة الاقتصاد الصناعي الأمريكي بالتدريج علي حساب تطوير الاقتصاد الصناعي المدني. وهكذا بدأت السيطرة الاقتصادية الأمريكية في التدهور في النصف الثاني من الخمسينيات، بعد أن تعافت اقتصاديات كثير من دول الحلفاء مثل ألمانيا واليابان، بل وبعض الدول النامية، وأصبحت منتجاتهم تنافس الصناعة الأمريكية في عقر دارها بسبب التجارة الحرة، حتى أصبحت السوق الاستهلاكية الأمريكية لا غنى عنها للجميع. وأصبحت الريادة الأمريكية ومكانة الدولار في خطر، وكان لابد من وضع حدٍ لهذا. وهكذا تم في عام 1971 إلغاء إمكانية تحويل الدولار إلى ذهب. كما تم زيادة أسعار البترول أربعة أضعاف، واستخدام فوائضه في إقراض الدول النامية المستهلكة له (للوفاء بالزيادة في أسعاره- كنوعٍ من الإتاوة) والإيقاع بها في فخ الديون المتوالدة، مما نتج عنه وأد نموها والتخلص من خطرها. ولم يكن أمام الدول الصناعية ذات الفوائض الدولارية إلا ثلاثة بدائل: إما أن توجد سوقاً بديلة لسوق أمريكا وهذا غير ممكن، أو تـُعرض اقتصادها للانكماش بالتوقف عن التصدير للسوق الأمريكي، أو أن تستثمر فوائضها في أمريكا في صورة سندات الخزانة الأمريكية. أدرك صناع السياسة أنه يمكن لأمريكا أن تحتفظ بازدهارها وريادة الدولار للأسواق المالية بإحداث عجزٍ في الميزان التجاري بينها وبين الدول الصناعية ، وارغامها على تحويل فوائضها إلي سندات الخزانة الأمريكية إن أرادت التصدير للسوق الأمريكي، عن طريق جعلها معتمدة علي الحماية الأمريكية مع التلويح دائماً بنزع درع الحماية النووية. وهكذا، وبعد اضمحلال تفوق الاقتصاد الأمريكي الصناعي التقليدي، تحولت السياسة الأمريكية من كون أمريكا الممول الرئيس للعالم إلي كونها المدينة الأكبر في العالم. وحلت المؤسسات المالية الأمريكية في نيويورك (المتعاملة في السندات الأمريكية وغيرها من أدوات استثمار الفوائض التجارية للدول الأخرى في الأسواق المالية الأمريكية) بالتدريج محل المراكز الصناعية الأمريكية الكبرى كأكبر نشاط اقتصادي أمريكي. كان هذا يعني في الواقع إصدار المزيد من الدولارات لتغطية العجز التجاري والنفقات الأمريكية بدون زيادة في الإنتاج الأمريكي. وكان يعني أيضاً حدوث التضخم وتهاوي قيمة الدولار. ولأن أمريكا هي القوة الوحيدة، اضطر العالم إلي الاستمرار في قبول الدولار المتضخم ذو القيمة المتهاوية كأداة للمقايضة علي السلع ودفع قيمتها، واستمر الجميع في السعي للحصول علي الدولارات. واستمر الأمر علي هذا الحال حتى عام 1979 عندما بدأت ألمانيا واليابان وحتى السعودية في التخلص من سندات الخزانة الأمريكية لتدني ثقتهم فيها ولانخفاض عائدها. واضطر محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي لمضاعفة الفائدة في أكتوبر 1979 ثلاثة أضعاف (إلى حوالى 21%) لإغراء الدول للاحتفاظ بسندات الخزانة. وكان الهدف هو إنقاذ الدولار كعملة للاحتياطي العالمي من الانهيار مهما كان الثمن. وأدي هذا إلي ارتفاع قيمة الدولار أمام كل العملات الرئيسة الأخرى، وإلى جعل المنتجات الأمريكية باهظة الأسعار في الأسواق العالمية وتسبب في تدهور الصادرات الأمريكية وإلي ركود حركة بناء العقارات وانهيار صناعة السيارات والصلب، ودفع الصناعة الأمريكية إلي الانتقال خارج أمريكا بحثاً عن تكلفة أقل للتمويل والأصول والعمالة. لقد تم إنقاذ الدولار على حساب الاقتصاد الأمريكي. وأصبحت أمريكا ترغم الجميع علي استثمار فوائضهم التجارية فيها بمعدل يقترب حالياً من 2 بليون دولار يومياً. وطالما أن هناك عجزاً في الموازنة الأمريكية، فهناك أذون خزانة للجميع. تنشيط الاقتصاد الأمريكي المتدهور عن طريق الفقاعات الاستهلاكية كان هذا يعني أيضاً استمرار تدهور الاقتصاد الأمريكي المحلي والصناعة الأمريكية ، واستمرار انتقالها إلى حيث التكلفة الأقل. وتحولت مراكز التسوق إلى قاطرة الاقتصاد بدلاً من المراكز الصناعية. وحيث أن هذا التدهور، بالإضافة إلى التضخم وتهاوي القوة الشرائية للدولار، كان يضعف مجتمع الاستهلاك الأمريكي وقدرته الفعلية على الاستهلاك، فقد كان من الضروري دفع الاستهلاك ولو بوسائل مصطنعة. وهكذا، كان يتم خلق الفقاعات الاستهلاكية وفقاعات الثروة المصطنعة؛ لامتصاص السيولة الزائدة في المجتمع جراء التضخم وزيادة المحتوى النقدي في الاقتصاد من ناحية، وللمحافظة على دوران الاقتصاد الأمريكي المحلي من ناحية أخرى، وللإبقاء على آلية إحداث العجز في الميزان التجاري الفيدرالي الذي يحفظ الريادة العالمية للدولار والسيطرة العالمية من ناحية ثالثة. ومع زيادة الأسهم والسندات الأمريكية في أيدي الجميع، زادت أنشطة تداولها، ونشطت الأسواق المالية الأمريكية في المضاربات فيها بكل أنواع المضاربات. لقد كان من الأعمال المكملة لإستراتيجية إدامة الهيمنة الأمريكية، أن يتم تنشيط المؤسسات المالية الأمريكية ودعمها وحمايتها وفتح الطريق أمامها، للاشتباك في معاملاتٍ ومضارباتٍ مالية تحاول بها ضرب المنافسين، واستعادة ما يمكن من الفوائض الدولارية من أيدي الآخرين، وابتكار الأدوات المالية التي تمكنها من ذلك. وهكذا تحول الاقتصاد الأمريكي بالتدريج إلي هرم من السندات والمضاربات. وكانت أنواع السندات والمضاربات دائمة التطور، ولكنها كانت دائما بمعزل عن أي نشاط إنتاجي في الاقتصاد الحقيقي بصورة متزايدة. ظهرت منذ منتصف السبعينيات أدوات مالية جديدة للمضاربة والمراهنة على قيم الأسهم والسندات والعقود والعملات. وشهدنا رفعًا للضوابط المالية والقوانين المنظمة وأجهزة المراقبة، وتطورات كبيرة في الاتصالات والحاسبات الآلية ساهمت كلها في خلق نظام مالي دولي شديد التداخل. وزادت معدلات تلك المراهنات حتى أصبحت الآن تقدر بحوالي 590 تريليون دولار أمريكي (وهو يساوي عشرة أضعاف الاقتصاد العالمي كله) مما ساهم في تعقيد وعدم استقرار النظام المالي الدولي. ومع تطور الحواسب الآلي ، تم وضع البرامج والمعادلات الرياضية المعقدة التي تضع في حسابها كل المتغيرات، ويستطيع الحاسب الآلي عن طريقها تحديد وتنفيذ عمليات البيع والمضاربة بصورة لحظية لتحقيق أقصى ربح. بل واعتقدوا أنهم نجحوا عن طريق برامجهم في خلق شفاط آليٍ هائل يكنس الأرباح من كل الأسواق المالية في العالم. مثلما حدث مع شركة (Long Term Capital Management-LTCM) لقد أصبحت تلك المضاربات من التعقيد بحيث قيل عنها أنها تعتبر من أسلحة الدمار المالي الشامل. وهذا الوضع جعل الاقتصاد الأمريكي اقتصاداً استهلاكياً يعتمد علي الواردات من الدول الأخري حتى بلغ العجز في الميزان التجاري الأمريكي عام 2007 أكثر من 700 بليون دولار. وزاد الكساد الذي تعانيه أمريكا. وتقلصت العمالة الصناعية بسبب التجارة الحرة وانتقال المصانع إلي الخارج. ولجأت الأسر إلي الاقتراض لتوفير ضروريات الحياة. ومع ثبات الرواتب منذ عام 2000 فإن المصدر الوحيد للأموال التي تم ضخها في الاقتصاد الاستهلاكي في هذه الفترة كان من أرباح التضخم في أسعار العقارات، ذلك السوق الذي يتهاوي حالياً. آلية استعادة الفوائض الدولارية من الآخرين حاولت تلك المؤسسات المالية الأمريكية الكبرى عن طريق المضاربة فيما بينها في أسعار عقود البيع المستقبلية للبترول والمعادن والغذاء (التي تضاعفت فجأة بدون زيادة طفرية في الاستهلاك، أو نقصٍ كبير في الانتاج)، استعادة الفوائض الدولارية من أيدي الآخرين حماية للدولار المتدهور من الانهيار كعملة الاحتياطي العالمي (بعض الخبراء يقدرون أن حوالي من 60% إلي 70% من الزيادة التي حدثت في أسعار البترول حدثت نتيجة لهذه المضاربات)، مما أدى أيضاً إلى تفاقم أزمة الاقتصاد الأمريكي. فمع ارتفاع تكلفة البترول والمعادن والمنتجات الزراعية، كان المتبقي في أيدي الناس للإنفاق علي بقية مستلزمات الحياة والخدمات يقل باستمرار. وحيث أن هناك أشياءً لا يمكن إلغاءُها مثل الرعاية الصحية والتعليم، فلابد أن يؤدي هذا إلي التعثر في سداد كل الأقساط. وأصبح لدي الدول الأخرى ما يقترب من 9 تريليون دولار في صورة ديون علي الحكومة الأمريكية تتطلب فائدة سنوية تزيد عن 50 بليون دولار ناهيك عن سدادها. وأصبحت أمريكا تعيش علي الاقتراض من الجميع، وكأن الجميع يعملون عندها مجاناً، وليس أمامهم إلا الاستمرار في شراء أذون الخزانة والحصول علي المزيد منها كفائدة سنوية، وتجديد المنتهي منها بأذون جديدة، لأن المقابل هو انهيار صادراتها أو ارتفاع قيمة عملتها أمام الدولار، وهو ما يعني أيضاً انهيار صادراتها وحدوث انكماش اقتصادي بها. أي أن بلاداً فقيرة مثل إندونيسيا تصدر رأس المال إلي أمريكا بدلاً من العكس! والخزانة الأمريكية وبنك الاحتياطي الفيدرالي يدركون اضطرار العالم لشراء أذون الخزانة الأمريكية لمنع النظام النقدي العالمي من الانهيار. كما تم أيضاً تطبيق حزمة من الإجراءات بهدف استعادة الفوائض الدولارية منها خفض قيمة الدولار بنسبة حوالي 40% على مدى عامين، وخفض الفائدة على أذون الخزانة الأمريكية حتى وصلت إلى 0.16%. كما وصل الدين الداخلي العام والخاص في أمريكا إلي أكثر من 40 تريليون دولار بعد أن كان 7 تريليون فقط عام 1985 حتى أنه ينمو بمعدل أكبر من إجمالي نمو الناتج القومي الأمريكي. وفي القلب من هذا الدين، الديون الخاصة بالمستهلكين (حيث بلغت الديون الشخصية لكل رجل وأمرأة وطفل في أمريكا 37.5 ألف دولار في المتوسط تدفع عنها فوائد) والديون الخاصة بالرهن العقاري. ثانياً: فقاعة الرهون العقارية والأزمة المالية الحالية كان الاقتصاد الأمريكي في 2000-2001 يبدو كما لو كان ينمو أخيرًا عقب ركودٍ شديد، وعقب انهيار قدره 60% في البورصة. فبعد انتهاء مهمة فقاعة (dot.com) وتخليص الشعب الأمريكي من فائض السيولة المتوفرة لديه، وبداية من يناير 2001 قام جرينسبان بإجراء 12 تخفيض متتالي في سعر الفائدة حتى وصلت من 6% إلي 1% في يونيو 2003، كما تم إطلاق شركات الرهن العقاري التي استهدفت أساساً قطاع الفقراء والمهاجرين والمناطق الملونة لخلق فقاعة الرهون العقارية. وآلية خفض نسبة الفائدة على القروض هي الآلية المتبعة دائما لخلق الفقاعات الاستهلاكية. ومع إقبال الناس على شراء المنازل، ارتفعت أسعارها. وشعر الجميع أنهم عثروا على كنز. وانطلق الجميع في الاستهلاك تحت شعاراتٍ مثل"هيا بنا نتسوق" أو "تسوق حتى تسقط من الإعياء" (Shop until you drop) ، بحيث أصبح 76% من إجمالي الناتج القومي الأمريكي يتم في صورة إنفاقات استهلاكية، ومعظمه مرتبطٌ بانتعاش السوق العقاري. لقد تمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي من إغراء الأسر الأمريكية لكي تستدين بمعدلاتٍ قياسيةٍ بخفض سعر الفائدة، وبالتلويح بحلم امتلاك منزل. وعندما تشتري الأسر المنازل فإنها تحتاج إلى كثير من السلع الأخرى (مما ينمي الاقتصاد) تحصل عليها بمزيدٍ من القروض بضمان منازلهم. تكتلٌ عصابي متكامل يصنع فقاعة الرهن العقاري تحول سوق الائتمان الأمريكي بعد إلغاء الرقابة الحكومية إلى شبكة مترابطة وهائلة من التكتلات. وتم هذا بالدعم الكامل من جرينسبان وتواطؤ كل أجهزة الإدارات الأمريكية المتعاقبة. ولكي يتم حبك اللعبة، استلزم هذا تواطؤ أكبر شركات التقييم المالي في العالم (مودي وستاندرد أند بورز). التي كانت تعطي تقييماً مرتفعاً لتلك السندات، وكذا شركات تأمين (11 شركة أسست خصيصاً برؤوس أموال متواضعة) لإصدار وثائق تأمين (بما قيمته 2.4 تريليون دولار) على سنداتٍ يعلمون أنها ليست مضمونة التحصيل، كخطوة لازمة لحبك اللعبة. وكان تطور الفقاعة كما يلي: o قامت البنوك بإقراض شركات الرهن العقاري التابعة التي قامت بدورها بعمل القروض للعامة والرهون العقارية الضامنة، ثم قامت بتكوين حزم (محافظ) من تلك القروض، واصدار سنداتٍ ومراهناتٍ بضمان تلك الديون وتدفقاتها، وبيعها بالجملة والقطاعي للجميع والحصول علي رسوم وأرباح في كل خطوة، ثم قام الجميع بالمراهنة والمضاربة عليها في عملياتٍ محشوة بالمعادلات الآلية وأعمال الحاسبات. o وفي حماية التقييم المرتفع والتأمين الوهمي، تم توريق كل شيء من الأصول المرهونة إلي ديون القروض والعقارات المؤجرة والقروض العقارية السكنية وقروض الطلبة وديون بطاقات الإئتمان، بل تم توريق ديون الدول النامية. وكان يتم تجميع هذه الأوراق المالية في حزم وبيعها في أسواق العالم. o ولأن عملية التوريق هذه كانت معقدة جداً وتتم حسب معادلات يضعها علماء الرياضيات المتخصصون، فلم يكن هناك أحد يدرك تماماً كنه عملية توزيع المخاطر، أو يدرك قيمة الضمان الموجود في قلب هذه الغابة المتشابكة من المراهنات، ومن هو المنتفع قانوناً من هذا الضمان. o كانت السندات بحاجة إلي بعض الحيل ليتم تداولها على أنها سنداتٌ ممتازة، وهي إصدار تقييم ممتاز لها، وتغطية مخاطرها بوثيقة تأمين. وهكذا تم إحكام الخدعة. وتم تكوين تشكيل عصابي كامل من البنوك والمؤسسات المالية وشياطين السماسرة (بعمولات مغرية) وشركات الرهن العقاري الصغيرة، للإيقاع بأكبر عددٍ ممكن من البسطاء ، مثل كبار السن والأقليات وأصحاب الدخول المنخفضة، وتوريطهم في فخ قروض مصممة بطريقة ليست لهم قدرة علي فهمها أو سدادها بضمان منازلهم التي يعيشون فيها، وباستخدام كل أنواع حيل الكذب والخداع فيما يطلقون عليه الآن "قروض الكاذبين". ورغم هذا كانت مؤسستي فاني ماي وفريدي ماك تضمنان تلك القروض العقارية! بل إن بعض الذين حصلوا علي قروض لشراء المنازل كانوا يعرفون جيداً أنهم لن يستطيعوا دفع أقساطها، وكانوا يعطون بياناتٍ شخصية ملفقة عن قدرتهم علي السداد! ربما لأنهم كانوا يظنون أنهم يمكنهم بطريقة ما الاستيلاء علي هذه المنازل! o كانت نسب الفائدة على القروض العقارية "تحت الممتازة" تبدأ بـ 2% لفترة قصيرة ثم ترتفع لتصل إلي ما يقرب من 40%. o كما أصدرت البنوك قروضاً ضخمة للمضاربات على الأسهم والسندات بنسب تغطية متدنية تصل إلي 2% علي أساس أنها سوف تورق هذه المخاطر الجمة على أي حال وتبيعها لمؤسسات الاستثمار في الأسواق المالية. o بل إن البنوك والمؤسسات المالية استخدمت هذه الرهون العقارية وسندات الأقساط للحصول علي قروض هائلة بنسب تغطية بسيطة استخدمتها في شراء الشركات وغيرها. o زادت أسعار المنازل بنسبة 124% بين أعوام 1997-2006، واستخدم بعض ملاك المنازل هذه الزيادة للحصول علي قروض جديدة لاستخدامها في شراء السلع الاستهلاكية، بحيث زادت الديون الشخصية بنسبة 130% خلال عام 2007 فقط مقابل زيادة قدرها 100% في العقد الذي سبق 2007 بأكمله. كانت القروض تبدأ بأقساطٍ منخفضة بأسعار فائدة متغيرة (ترتفع كلما رفع البنك المركزي أسعار الفائدة) وتبدأ الأقساط منخفضة لمدة ثلاث سنوات (تذهب كلها خلالها لسداد الفوائد ولا تذهب إلى ملكية جزءٍ من المنزل). وإذا تأخر المقترض عن دفع أي دفعة تتضاعف أسعار الفائدة بنحو ثلاث مرات. كان المستثمرون يعتقدون أنهم يملكون سندات مضمونة بعقارات يمكن الحجز عليها وبيعها إذا توقف السداد، ويحصلون على عوائد من المدفوعات الشهرية. ولكن هؤلاء المستثمرين رهنوا تلك السندات، على اعتبار أنها أصول، مقابل قروضٍ جديدة للاستثمار في شراء مزيد من السندات. أي استخدموا قروضاً للحصول على مزيد من القروض! وتساهلت البنوك لدرجة أنه كان يمكن اقتراض ما يساوي 30 ضعف قيمة الرهن. باختصار، اعتقد المالك أن المنزل بيته، وظن البنك أن المنزل ملكه أيضاً. واعتقد المستثمرون أن المنزل نفسه ملكهم هم لأنهم يملكون السندات. وبما أنهم رهنوا السندات، فإن البنك الذي قدم لهم القروض يعتقد أن هناك منزلاً في مكان ما يغطي قيمة هذه السندات، رغم أن القروض التي أصدروها تبلغ نحو 30 ضعف قيمة المنزل. ومع ارتفاع أسعار المنازل ، كان يمكن الحصول على قرض جديد مقابل رهن جزءٍ من المنزل، لشراء المزيد من السلع، مثل دفع مقدم سيارة جديدة مثلا، وقام بنكٌ بتمويل الباقي. وبتحويل الدين الجديد إلى سندات وبيعها إلى بنك استثماري آخر احتفظ بجزء منها، وقام بدوره ببيع الباقي إلى صناديق تحوط وصناديق سيادية في أنحاء العالم كله. كان مالك السيارة يعتقد أنه يمتلك السيارة، واعتقد البنك الأول أنه يمتلك السيارة، واعتقد البنك الثاني أنه يمتلك السيارة، واعتقد المستثمرون أنهم يملكون سندات لها قيمة لأن هناك سيارة في مكان ما تضمنها. المشكلة أن كل هذا حصل بسبب ارتفاع قيمة المنزل ، ولك أن تتصور ما يمكن أن يحدث عندما تنخفض قيمة المنزل ، ويفقد المقترض الأصلي عمله. واستمر هذا النشاط حتى آخر يونيو 2004 عندما بدأ جرينسبان في رفع الفائدة مرة أخرى في 14 زيادة متتالية وصلت بها إلي 4.5% علي مدي 19 شهر (فيما يبدو وكأنه تفجيرٌ متعمد للفقاعة العقارية) مما أدى إلي بدء انهيار فقاعة الرهن العقاري قبل أن يترك منصبه. كما بدأت أسعار العقار في الانخفاض! الأزمة والانهيار حدثت بداية الأزمة عام 2007 عندما رفع البنك الألماني دعوى أمام المحكمة الفيدرالية في كليفلاند-أوهايو يطلب تمكينه من الحجز علي 14 منزل توقف أصحابها عن سداد أقساط ديونهم، وهو مبلغ تافه جداً بالنسبة للبنك الألماني الذي تبلغ أصوله العالمية 1.1 تريليون يورو. وقد طلب القاضي من البنك الأوراق القانونية التي تثبت حقه في إجراء هذا الحجز، ولم يكن لدى البنك هذه المستندات. ولم تكن حجته إلا أن البنوك تفعل هذا منذ سنوات بلا أي مشاكل. ومما زاد الطين بلة أنه عندما كان أصحاب المنازل يقومون برهنها للبنوك ضماناً للقروض وللأقساط، لم يكن يتم تسجيل الرهون لصالح المؤسسة المقرضة لأنها كانت تنوي توريق وثائق الرهون وبيعها في سوق المال حيث يتم تداولها بين عشرات المؤسسات المالية. وعليه، تم تفادي عمليات التسجيل المعقدة والطويلة والمكلفة. ولكن هذا الأمر جعل وثائق الرهن غير قانونية لأنه لم يُنص فيها على المستفيد من الرهن. وكان يتم تجميع تلك الوثائق معاً في حزم جرى تقسيمها بنسب مختلفة حسب معادلات معقدة، وبيع تلك الأجزاء إلي المؤسسات المالية المختلفة التي باعتها بدورها إلي آلاف المستثمرين. وأصبحت كل وثيقة رهن يمتلكها عدد كبير من المؤسسات ليست بينها أي علاقات. ولم يعد هناك مالكٌ وحيد لأي وثيقة يستطيع ادعاء أن الرهن لصالحه قانونا. وثالثة الأثافي، أن كثيراً من مؤسسات الرهن الصغيرة التي قامت بعمل هذه الوثائق للملايين من المنازل كانت قد أفلست فعلاً ولم يعد لها وجود، كما أن الكثير من الوثائق القانونية الواجب إلحاقها بوثائق الرهونات هذه فقدت تماماً في خضم العمليات التبادلية، ومن جراء إفلاس وإغلاق الكثير من مؤسسات الرهن والإقراض العقاري الصغيرة بحيث أصبح من المستحيل تماماً تسجيل هذه الوثائق. كما لم يتم ربط استثمارات المستثمرين في صناديق الاستثمار برهونات منازل محددة. وتمخض الوضع عن أطرافٍ مالكة غير محددة، ورهونٍ غير مسجلة، ووثائق رهونات مجزئة، وأوراق رسمية ضائعة، وأطراف راهنة أفلست واختفت، ومقترضون عاجزون عن السداد. ولم يكن يتم طرح السندات تحت الممتازة للمستثمرين إلا بعد أن يتوقف أصحابها عن السداد فعلاً. أي أن المستثمرين الذين كانوا يشترون أجزاءً من أوراق محافظ هذه السندات عالية المخاطر طمعاً في المزيد من الربح، لم يكونوا يشترونها إلا بعد أن تصبح بلا قيمة! مما يجعلهم قانوناً غير مستحقين لأي تعويض؛ لأنهم لم يكونوا أطرافًاً في المشكلة عند وقوعها، بل مجرد أطرافٍ ظهرت فيما بعد وتعرضت لعملية نصب. في النهاية، توقف المقترضون عن سداد الأقساط، ففقدت السندات قيمتها، وأفلست البنوك الاستثمارية وصناديق الاستثمار المختلفة وشركات التأمين. وعمليات الإفلاس أجبرت البنوك على تقليص عمليات الإقراض، الأمر الذي أثر في كثير من الشركات الصناعية وغيرها التي تحتاج إلى سيولة لإتمام عملياتها اليومية. لقد بلغت قيمتة مشتقات الرهون العقارية في يناير 2007 أكثر من 6.5 تريليون دولار (يبلغ حجم سوق الرهن العقاري في أمريكا 12 تريليون دولار)، وهو تقريباً نصف الإنتاج القومي السنوي الكلي للاتحاد الأوروبي. إن دائنو القروض العقارية يتوقفون عن السداد بمعدل شهري يصل إلي 50 بليون دولار، وهذا يعرضُ سوق المشتقات (الذي تصل قيمته إلى عدة مئات من تريليونات الدولارات) للخطر، مما يعرض عدداً هائلاً من البنوك، بل والنظام البنكي كله لخطر الانهيار. ولوجود هذه الأوراق في حزم تختلط فيها الديون المعدومة بالديون الجيدة، انهارت الثقة في سوق السندات الضمنة بالرهون العقارية كلها. والآن لا يوجد من يرغب في شراء سندات مالية لا يستطيع أحد أن يضع قيمة لها. كما أن الرابح لا يستطيع تحصيل أرباحه من هذا السيرك إلا إذا دفعت الحكومة الخسائر التي لا يستطيع الخاسر أن يدفعها. انهياراتٌ متتالية ففي يونيو 2007 انهار بنك بيرشترن وهو من أكبر البنوك بعد أن حاول التخلص من كل الأوراق المالية المضمنة بالرهون العقارية الموجودة في حوزته، دون جدوى، لعدم وجود مشترٍ لها. وفي 7 سبتمبر 2008 اضطرت إدارة بوش لما يشبه تأميم أكبر مؤسستين للرهن العقاري، حيث أصبحت وزارة الخزانة الأمريكية ضامنة لما يزيد عن 5.3 تريليون دولار قيمة عجز مؤسستي "فاني ماي وفريدي ماك". وهما إما تمتلكان أو تضمنان ما قيمته 6 تريليون دولار من القروض العقارية، أو ما يساوي نصف القروض العقارية في السوق الأمريكية. وفي 15 سبتمبر أفلست مؤسسة ليمان براذرز. وفي 17 سبتمبر وافق البنك الفيدرالي علي دعم شركة AIG للتأمين بمبلغ 85 بليون دولار بسبب ضمانها لأرباح المراهنين علي قيم الأسهم والسندات التي أصبحت بلا قيمة. ومن العجيب أن رؤساء AIG وفاني ماي وفريدي ماك تم عزلهم جميعاً لتزويرهم في الميزانيات. لقد أصدرت AIG (بمباركة من الجميع) وثائق تأمين بنصف تريليون دولار ضمنت فيها جميع الأطراف التي تدخل في المضاربات المالية ضد بعضها علي أن الدولار سوف يرتفع أوينخفض أمام اليورو أو أن سوق الرهن العقاري الذي قيمته 12 تريليون دولار سوف ينتعش أو ينهار، بالإضافة إلي التريليونات من المضاربات في المشتقات في سوق الصرف العالمي، وجمعت البلايين من رسوم الوثائق التي تصدرها الحاسبات. لقد كانت تؤمن الجميع ضد مخاطر المضاربة ضد الجميع، أي أنها كانت خاسرة على أية حال. إن الانهيار التالي المتوقع هو انهيار سوق العقود التبادلية المباشرة (SWAP) وهي عقودٌ تستبدل تدفقات متغيرة أو غير مضمونة بتدفقات ثابتة. لقد انتشر استخدام هذه العقود في مدة 7 سنوات حتى بلغ حجمها الآن حوالي 62 تريليون دولار. وكانت أطراف تلك العقود تعيد بيعها للآخرين الذين يعيدون بيعها بدورهم، بحيث أصبح من الصعوبة علي من وجد هذه العقود في حوزته عند حدوث المشكلة أن يتتبع مسارها السابق ليصل إلي الطرف الذي يجب عليه دفع التعويض عند حدوث الأزمة. وهذه قنبلة يمكن أن تنفجر في أي لحظة. ومع تضاعف عدد المتعثرين مع تطور الأزمة، يؤدي هذا إلي المزيد من التعثر، بما قد يعرض النظام المالي الغربي بأكمله للانهيار. لقد اشترك الجميع في مهرجان النصب والنهب إلي آخر لحظة، حيث أن المضاربين يحققون أرباحاً كبيرة في المضاربة علي السندات حتى أثناء انهيارها، من خلال ما يسمى بالبيع القصير (أي المراهنة على انخفاض أسهم معروفٌ للخاصة أنها سوف تنهار بسبب مشاكلٍ مالية في الشركة). لقد حققت بعض المؤسسات المالية أكبر الأرباح في المضاربة علي أسهم فاني ماي وفريدي ماك أثناء انهيارهما! بل إن هناك مؤسساتٍ مالية كانت تعرف أن الكونجرس سيرفض خطة الدعم المالي مرتين، حققت أرباحاً تقدر بمئآت البلايين من الدولارات في المراهنة على ذلك وبيع الأسهم والسندات والمشتقات، ثم إعادة شراءها في كل مرة تنهار فيها أسعار البورصات بسبب رفض الكونجرس لخطة الدعم. ومن العجيب إنه تم عزل مدراء المؤسسات المالية الذين تورعوا عن الاشتراك في هذه المذبحة والسؤال هنا لماذا تتدخل الحكومة الأمريكية لإقالة هؤلاء المغامرين. يجب ألا ننسى هنا أن هذه المؤسسات المالية هي أكبر المساهمين في تكلفة الحملات الانتخابية الرئاسية، كما أنها هي القوة الضاربة للإمبراطورية الأمريكية المبنية على الديون، تلك القوة المكلفة باستعادة الثروة المالية من الأسواق المالية في العالم. ولحل مشكلة الرهون العقارية يجب خفض سعر الفائدة حتى يتمكن أصحاب العقارات من سداد أقساطها. إلا أن هذا سيؤثر سلباً على سندات الخزانة الأمريكية. ومعنى هذا هو التضحية بالاقتصاد المحلي لكي يتسنى الاحتفاظ بالقدرة علي تمويل العجز التجاري بين أمريكا والعالم، أساس الهيمنة الأمريكية من خلال الديون. ولكنها لا تستطيع أن تكشف هذا للعامة. ولهذا قد تحتاج الحكومة الأمريكية إلى إعلان الأحكام العرفية للحفاظ على القانون والنظام. وقد نشرت صحيفة آرمي تايمز في سبتمبر 2008 أن الحكومة الأمريكية قامت باستدعاء الفرقة الأولى من جيش المشاة الثالث من العراق لتصل إلى أمريكا في أكتوبر لتكون "تحت تصرف الحكومة الفيدرالية وعلى أهبة الاستعداد لمواجهة الطوارئ والكوارث الطبيعية والمصنوعة بما في ذلك الهجمات الإرهابية"، على حد قول الصحيفة. هل الحكومة الفيدرالية تتحسب لمواجهة الاضطرابات المدنية وامكانية تفجر الغضب الشعبي؟ لقد أصبح ثبات الدولار والنظام المالي طوال السنوات الماضية معتمدًا على استمرار التدفقات الضخمة التي تمول عجز الحساب الجاري الضخم، وتمول أيضـًا بناء الإمبراطورية الأمريكية السافرة، بل وتدير عجلة الاقتصاد العالمي. ويبدو أن النظام النقدي المملوك ملكية خاصة والمبني على القروض والديون قد وصل إلى منتهاه، وأصبح يهدد جميع البشر. إن الحل الأمثل هو إلغاءه واستبداله بنظام نقودٍ غيرربوية وليست مبنية على القروض. ولكن هل تجرؤ الحكومة الأمريكية وغيرها من الحكومات علي اتخاذ الخطوة الإصلاحية الأساسية وهي تأميم البنك الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية الخاصة، التي تشرف علي أعمال كل البنوك والمؤسسات المالية الكبرى في أمريكا والعالم وتديرها لتحقيق المزيد من الأرباح للنخب المالية؟ لقد تم اللجوء إلي الحروب والتهديد بها علي مر التاريخ للخروج من الأزمات الاقتصادية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية علي مر تاريخها لجأت إلى الحروب كلما انهارت قيمة الدولار أو انهار اقتصادها. فهل يحدث هذا أيضاً هذه المرة؟ هل سيجري التضحية بالجميع لكي يتم الاحتفاظ بالقدرة علي شن الحروب والتصرف كدولة عظمى والاستمرار في اقتراض 700 مليون دولار سنوياً لتمويل العجز التجاري، أساس إمبراطورية الديون؟ مشاهد لم تتم بعد إن الشواهد تقول أنه كانت هناك سلسلة من الإجراءآت تمت منذ فترة، حيث طلبت إدارة كلينتون من المؤسسات المالية التوسع في إصدار القروض العقارية للفئات التي لم تكن مؤهلة لهذه القروض من قبل. ويقول ريتشارد كوك الخبير والمحلل الاقتصادي: "إن البنوك أصدرت تعليماتها إلي السماسرة بالتزوير في بيانات المقترضين والمبالغة في تقدير دخولهم". كما بدأت شركات الرهن العقاري بمباركة من جرينسبان في اعطاء قروض بفائدة متغيرة تتضاعف بعد عدة سنوات عند التوقف عن سداد قسط واحد. مع إغراء الناس بإمكان إعادة بيعها وتحقيق أرباح كبيرة قبل أن ترتفع قيمة نسب الفائدة وبعدها بدأت المؤسسات المالية في وول ستريت في تجميع فيضان الرهونات وتوريقها وبيعها للجميع في أنحاء العالم، بعد أن اعطت مؤسسات التقييم تقييماً ممتازاً لتلك الأوراق المالية والسندات المزورة. كما قامت مؤسسات الرقابة علي السندات بتخفيض متطلباتها علي المساهمة الشخصية للمساهمين من أموالهم الخاصة في المضاربات مما أحدث زيادة هائلة في المضاربات والمراهنات باستخدام قروض البنوك. وقالت محطة ABC إن خبراء تحليل المخاطر في بنك واشنجتون ميوتشوال Washington Mutual (هذا البنك الهائل الذي انهار مؤخراً) صدرت إليهم تعليمات بإغفال الإشارة إلي مخاطر القروض العقارية؛ لأن الهدف هو زيادة هذه القروض إلي اقصى حد. وتم إسكات الخبراء المعارضين أو التخلص منهم. كما صدرت الأوامر من وزارة الخزانة والرقابة علي النقد إلي أجهزة الإدعاء العام في الولايات المختلفة بعدم التحقيق في بلاغات التزوير في أوراق الرهون وعدم تحويلها إلي المحاكمة. وأحدث الانهيار في الاقتصاد الأمريكي مع حلول سبتمبر 2008 صدىً كبيراً في العالم كله وبدأت البنوك وصندوق النقد الدولي يحذران من حدوث كسادٍ عالمي. وانطلقت الولايات المتحدة مع دول أوروبا لترتيب سلسلة من مؤتمرات القمم الاقتصادية لإيجاد حل للأزمة المالية العالمية حيث يستضيف جورج بوش المؤتمر الأول في واشنطن في 15 نوفمبر القادم. وبدأ الحديث عن الحاجة إلى منظومة عالمية للأسواق المالية، أي إلى مزيدٍ من الضبط والربط في أيدي الكبار. ومن الملاحظ أنه لم يسمح لبنك بير شتيرن بالانهيار حيث تم دمجه في بنك مورجان تشيس (بـ 2 دولار للسهم بعد أن كان السهم يباع بـ 159 دولار قبل عامٍ واحد) بينما ترك بنك ليمان براذرز لكي ينهار ويفقد كل المستثمرين فيه أموالهم. هل لهذا علاقة بحقيقة أن بنك ليمان براذرز كان يستثمر مئات البلايين من الدولارات للمؤسسات المالية الأوروبية وبعض المؤسسات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط؟ (أعرف أن صندوقاً سيادياً لأحد دول البترول العربية أودع في بنك ليمان 500 مليون دولار إضافية قبل عدة أسابيع فقط من انهياره! هل يختلف مستشارو هذا الصندوق من الأمريكان عن رجال عصابة القناع الأسود أو رجال كابتن مورجان القرصان في شيء؟) لأن انهياره نتج عنه أن فقد كل هؤلاء المستثمرين أموالهم. هل لهذا الأمر علاقة بالحرب أو التنافس بين اليورو والدولار (أي بين أوروبا الموحدة والولايات المتحدة) علي السيطرة المالية علي العالم؟ إن نقطة الضعف الوحيدة لهذا التفسير هي أن هذا الأمر يستلزم أن نفترض سذاجة منقطعة النظير في جانب المؤسسات المالية الأوروبية العريقة التي يرجع تاريخ إنشاؤها قروناً قبل أن تظهر المؤسسات المالية الأمريكية إلي الوجود. إن هذه الحقيقة ترجح احتمال وجود نوعٍ من التفاهم والتنسيق فيما يحدث بين المؤسسات المالية الكبرى علي جانبي الأطلنطي. من المعروف أن آلية اصطناع فقاعة مالية ثم تفجيرها ينتج عنه تدمير الثروات المالية المستثمرة في الأسواق المالية، وينتج عنه أيضاً إفلاس الشركات والبنوك وبيعها بأثمان بخسة لمن يستطيع تدبير السيولة النقدية لذلك ولو بطباعاتها أو خلقها علي شاشة الحاسبات، بما ينتج عنه أيضاً تركيز الثروات في أيدي تلك المؤسسات الكبرى. وقد كانت تلك الفقاعات يتم اصطناعها باستمرار إما في الأسواق المالية المحلية أو في الأسواق المالية الإقليمية كما كان يحدث في أمريكا ودول أوروبا واليابان ودول جنوب شرق آسيا وروسيا. وكما كان يحدث علي مستوى أسواق أوروبا الغربية أو جنوب شرق آسيا ككل. وكانت النتيجة دائماً هي اختفاء الثروات التي جمعت بالكد والعمل أو عن طريق استغلال الثروات الطبيعية للبلدان والشعوب، كما كان ينتج عنها أيضاً المزيد من تركيز الثروات في أيدي المؤسسات المالية الكبرى في العالم. إن الجديد في هذه الأزمة الحالية هو اتساع نطاق تبادل تلك الأوراق المالية المزيفة والمسمومة ليشمل العالم كله تقريباً من خلال الأسواق المالية في أمريكا وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط، بحيث نشاهد حالياً الانهيارات المتتالية للأسواق المالية في كل مكان واختفاء الثروات الورقية، والدعاوى الغريبة لوضع نظم مالية عالمية موحدة. وإذا سمحنا لأنفسنا بأن نستخدم خبرتنا فيما كان يحدث من تركيز الثروات بعد انفجار الفقاعات المالية وانهيار الأسواق المالية في الماضي، فإننا نجد أنفسنا أمام تساؤل غريب، يليق رغم غرابته بعالم تساقطت فيه الحواجز بعد انتشار العولمة: هل هذا الأمر إرهاصة لمزيد من الاستيلاء علي الثروات في العالم كله وتركيزها في أيدي حفنة من المؤسسات المالية العملاقة؟ بقلم د.صلاح عبدالكريم باحث في الاقتصاد السياسي ونائب رئيس جمعية مصر للثقافة والحوار

رابط المقال الأصلي

No comments: