د.هبة رءوف عزت
تدهشني دوماً المدينة الحديثة التي نعيش في ظلها بمساحاتها ومستوياتها المختلفة وكيف أعادت صياغة حياتنا، وأتأمل فيما وراء الظاهر والمرئي إلي الدلالات والمعاني الباطنة. والمدينة ليست هي القاهرة وحدها، بل هي أي مدينة كبيرة في زمن العولمة، قد تختلف الثقافات لكن مدن العولمة بينها قواسم مشتركة حتي لو تنوعت التجليات والمظاهر..يبقي هناك اشتراك في جوهر الظواهر.
تدهشني دوماً المدينة الحديثة التي نعيش في ظلها بمساحاتها ومستوياتها المختلفة وكيف أعادت صياغة حياتنا، وأتأمل فيما وراء الظاهر والمرئي إلي الدلالات والمعاني الباطنة. والمدينة ليست هي القاهرة وحدها، بل هي أي مدينة كبيرة في زمن العولمة، قد تختلف الثقافات لكن مدن العولمة بينها قواسم مشتركة حتي لو تنوعت التجليات والمظاهر..يبقي هناك اشتراك في جوهر الظواهر.
والمدن الحديثة كما تعلمنا من كتابات علم الاجتماع الحديثة «خاصة النقدية منها ذات المنحي الماركسي» هي مساحات تفكيك المجتمع وطغيان وهيمنة السوق والمادة بامتياز، ومن أفضل ما يمكن أن نقرأ عن الرأسمالية هو كتابات الماركسيين ومؤلفات الناقدين للرأسمالية المتوحشة من الليبراليين الذين يرون للإنسان وللمجتمع قيمة تخدمها حرية السوق وليس العكس، فأهل الغرب أدري بشعابهم، وقراءة الرأسمالية في مرآة نقادها بمثابة مذكرة تفسيرية تعين في فك شفرة التحول الغربي تاريخياً من منطق الاجتماع الإنساني إلي حقبة الاستعمار إلي سيادة منطق السوق، وما نجده من نقص بشري شائع في فهم الماركسيين والليبراليين نستكمله نحن بالفهم الحضاري الذي يضيف أبعاد الدين ومركزية الثقافة التي أهدرها الفكر المادي في انصرافه لتحليل الاقتصاد وتقليله من شأن الغيب وما وراء المادة. فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها.
تخبرنا الكتابات الجديدة خاصة تلك التي تحلل وتدرس هذه المرحلة من تاريخ الرأسمالية في ظل العولمة التي تجتاح العالم بالقوة الصلبة العسكرية تارة وبالقوة الرخوة الناعمة تارة أخري أن المدن تحولت من: «أمكنة للتفاعل الإنساني بها أسواق»... إلي «أسواق بها ملامح للتواصل الإنساني»، والفارق بينهما كبير. ففي حين يصبغ المجتمع القوي سوقه بصبغة إنسانية «كما في حالة تحريم الربا في المجتمع الإسلامي لحفظ الإخوة الإنسانية في وقت العسر وعدم تحويل المال إلي سلعة» كذلك يمكن للسوق القوي في هيمنته علي المجتمع أن يصبغ هذا المجتمع بقيمه ومعاييره، فتعلو القيمة المادية علي القيمة المعنوية الإنسانية، وتعلو قيمة الثروة علي قيمة الإنسان في المكانة الاجتماعية، فتنمو الفوارق الطبقية، وتعلو قيمة زمن العمل المنتج مادياً علي أي قيمة لـ«الزمن الاجتماعي» الذي يبني «رأس المال العاطفي والتراحمي» الذي لا يمكن لمجتمع سليم طبيعي الحياة بدونه.
المدن تحولت وتغولت بفعل هيمنة السوق وأصبح لها طابع متشابه في أنحاء العالم ببساطة لأن السوق واحد، وهو سوق رأسمالي شرس يجتاح المساحات الأخري للمجتمع ليجتذب الناس منها ويحولهم لمستهلكين بالدرجة الأولي.
ويحكم السوق منطق التفكير ويغري الناس بشراء ما يحتاجون، ويسلمهم لسوق العمل «الرأسمالي أيضاً» ليعملوا بجد واجتهاد كي يستهلكوا بجدية وعناد. لا يردهم عن الولع بالشراء والاقتناء، فيتمتعون ويأكلون، وتدور رحي المتعة والطعام لتطحن أيامهم وأعمارهم كما تستولي علي أموالهم، فيعيشون حياة مستعارة تمتلئ بالسلع.. لكنها فقيرة إنسانياً. يخدعون أنفسهم ببعض العلاقات الهشة هنا أو هناك أو ببعض الطقوس الدينية التي يمارسونها فرادي «رغم أن الدين في جوهره طقوس مشتركة لبناء مفهوم الجماعة في حياة الفرد وهي حياة متعددة الأبعاد غنية تجمع بين مساحات الخصوصية والمساحات العامة».
ولأن السوق دخل عبر وسائط الإعلام إلي حياة الأفراد وحكم تصوراتهم عن الحياة الطيبة في هذه الدنيا وأهدر المجتمعي من القيم لصالح منطقه هو، نجد أن المدينة الحديثة اختلت بها معايير الخاص.. والعام، وهيمن الفردي علي الاجتماعي . اختلت كل المعايير لتداخل كل المساحات وسقوط التمييز بين المجالات.
شروط الزواج بل الصداقة صارت بالغة الطبقية، مفرطة في المادية، وحركة الناس في الزمن تجاهلت الوقت المخصص لبناء العلاقات الإنسانية لندور في حلقة مفرغة من اللهث وراء المال كي نفي باحتياجات خلقها لنا السوق وأوهمنا بأنها لا غني عنها لحياتنا، دون النظر للتكلفة الاجتماعية والإنسانية التي نتحملها كأفراد وكمجتمع..وكأمة.
واستخدام وصف «أمة» ليس فيه مبالغة، فرغم أننا نتحدث عن المجتمع والسوق فإن السياسة ليست غائبة، فاقتصاديات الوقت التي يتم تشكيلها في ظل دوائر الرأسمالية وثقافة الاستهلاك التي اجتاحت كل الفئات الاجتماعية «من لا يقدر عليها يظل يحلم بها فتفسد عليه حياته ولا يري ما بها من نعم الله»، هذه الثقافة الاستهلاكية لها ثمن سياسي باهظ، فبدلاً من خفض سقف التوقعات المادية وتخصيص بعض من مساحات الوقت ومساحات الأمكنة للشأن العام والعمل السياسي في حياة الناس، انصرفت الغالبية للقمة العيش التي أصبحت لقمة «مارون جلاسيه» في حالة فئة واسعة من الطبقة الوسطي الجديدة التي استوعبتها ثقافة السوق تماماً فانصرفت عن المجال العام ساعية لمراكمة الثروة في سلع معمرة وعقارات، فظهرت المنتجعات التي تستنزف وقت الفراغ وتخرج الناس من المجال العام السياسي بنقلهم خارج المدينة أصلاً لمدن الترفيه والاستجمام في عطلة نهاية الأسبوع «من ثلاثين سنة لم يكن عندنا «ويك إند» في مصر بل كان «يوم الجمعة» فقط». هذا التحول في المساحات والأوقات تزامن مع تحول في الاقتصاد وأثمر عن انكماش في السياسة هو أخطر من بطش واستبداد الدولة لأنه خفي وبلا ضجيج أو صخب.
اتسعت المدن وانفتحت الأسواق، وتأثرت الذات والأوقات والمساحات.. اختفت أحياء وأبنية ومساحات وعادات وعلاقات وانشقت الأرض عن أخري أقل إنسانية وأقل جماعية وتواصلية لها أسوار مادية ومعنوية.. وكان الثمن الاجتماعي والسياسي للرأسمالية الجديدة علينا...فادحاً.
وللحديث بقية.
http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=16116&Itemid=31
تخبرنا الكتابات الجديدة خاصة تلك التي تحلل وتدرس هذه المرحلة من تاريخ الرأسمالية في ظل العولمة التي تجتاح العالم بالقوة الصلبة العسكرية تارة وبالقوة الرخوة الناعمة تارة أخري أن المدن تحولت من: «أمكنة للتفاعل الإنساني بها أسواق»... إلي «أسواق بها ملامح للتواصل الإنساني»، والفارق بينهما كبير. ففي حين يصبغ المجتمع القوي سوقه بصبغة إنسانية «كما في حالة تحريم الربا في المجتمع الإسلامي لحفظ الإخوة الإنسانية في وقت العسر وعدم تحويل المال إلي سلعة» كذلك يمكن للسوق القوي في هيمنته علي المجتمع أن يصبغ هذا المجتمع بقيمه ومعاييره، فتعلو القيمة المادية علي القيمة المعنوية الإنسانية، وتعلو قيمة الثروة علي قيمة الإنسان في المكانة الاجتماعية، فتنمو الفوارق الطبقية، وتعلو قيمة زمن العمل المنتج مادياً علي أي قيمة لـ«الزمن الاجتماعي» الذي يبني «رأس المال العاطفي والتراحمي» الذي لا يمكن لمجتمع سليم طبيعي الحياة بدونه.
المدن تحولت وتغولت بفعل هيمنة السوق وأصبح لها طابع متشابه في أنحاء العالم ببساطة لأن السوق واحد، وهو سوق رأسمالي شرس يجتاح المساحات الأخري للمجتمع ليجتذب الناس منها ويحولهم لمستهلكين بالدرجة الأولي.
ويحكم السوق منطق التفكير ويغري الناس بشراء ما يحتاجون، ويسلمهم لسوق العمل «الرأسمالي أيضاً» ليعملوا بجد واجتهاد كي يستهلكوا بجدية وعناد. لا يردهم عن الولع بالشراء والاقتناء، فيتمتعون ويأكلون، وتدور رحي المتعة والطعام لتطحن أيامهم وأعمارهم كما تستولي علي أموالهم، فيعيشون حياة مستعارة تمتلئ بالسلع.. لكنها فقيرة إنسانياً. يخدعون أنفسهم ببعض العلاقات الهشة هنا أو هناك أو ببعض الطقوس الدينية التي يمارسونها فرادي «رغم أن الدين في جوهره طقوس مشتركة لبناء مفهوم الجماعة في حياة الفرد وهي حياة متعددة الأبعاد غنية تجمع بين مساحات الخصوصية والمساحات العامة».
ولأن السوق دخل عبر وسائط الإعلام إلي حياة الأفراد وحكم تصوراتهم عن الحياة الطيبة في هذه الدنيا وأهدر المجتمعي من القيم لصالح منطقه هو، نجد أن المدينة الحديثة اختلت بها معايير الخاص.. والعام، وهيمن الفردي علي الاجتماعي . اختلت كل المعايير لتداخل كل المساحات وسقوط التمييز بين المجالات.
شروط الزواج بل الصداقة صارت بالغة الطبقية، مفرطة في المادية، وحركة الناس في الزمن تجاهلت الوقت المخصص لبناء العلاقات الإنسانية لندور في حلقة مفرغة من اللهث وراء المال كي نفي باحتياجات خلقها لنا السوق وأوهمنا بأنها لا غني عنها لحياتنا، دون النظر للتكلفة الاجتماعية والإنسانية التي نتحملها كأفراد وكمجتمع..وكأمة.
واستخدام وصف «أمة» ليس فيه مبالغة، فرغم أننا نتحدث عن المجتمع والسوق فإن السياسة ليست غائبة، فاقتصاديات الوقت التي يتم تشكيلها في ظل دوائر الرأسمالية وثقافة الاستهلاك التي اجتاحت كل الفئات الاجتماعية «من لا يقدر عليها يظل يحلم بها فتفسد عليه حياته ولا يري ما بها من نعم الله»، هذه الثقافة الاستهلاكية لها ثمن سياسي باهظ، فبدلاً من خفض سقف التوقعات المادية وتخصيص بعض من مساحات الوقت ومساحات الأمكنة للشأن العام والعمل السياسي في حياة الناس، انصرفت الغالبية للقمة العيش التي أصبحت لقمة «مارون جلاسيه» في حالة فئة واسعة من الطبقة الوسطي الجديدة التي استوعبتها ثقافة السوق تماماً فانصرفت عن المجال العام ساعية لمراكمة الثروة في سلع معمرة وعقارات، فظهرت المنتجعات التي تستنزف وقت الفراغ وتخرج الناس من المجال العام السياسي بنقلهم خارج المدينة أصلاً لمدن الترفيه والاستجمام في عطلة نهاية الأسبوع «من ثلاثين سنة لم يكن عندنا «ويك إند» في مصر بل كان «يوم الجمعة» فقط». هذا التحول في المساحات والأوقات تزامن مع تحول في الاقتصاد وأثمر عن انكماش في السياسة هو أخطر من بطش واستبداد الدولة لأنه خفي وبلا ضجيج أو صخب.
اتسعت المدن وانفتحت الأسواق، وتأثرت الذات والأوقات والمساحات.. اختفت أحياء وأبنية ومساحات وعادات وعلاقات وانشقت الأرض عن أخري أقل إنسانية وأقل جماعية وتواصلية لها أسوار مادية ومعنوية.. وكان الثمن الاجتماعي والسياسي للرأسمالية الجديدة علينا...فادحاً.
وللحديث بقية.
http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=16116&Itemid=31
No comments:
Post a Comment