ينسب للأستاذ خالد محيي الدين أنه قال: "كان عبد الناصر عظيما في إنجازاته وكان عظيما في أخطائه" والمعني المقصود أن الرجل كان وراء إنجازات عظيمة تحسب له وكان وراء إخفاقات كثيرة تحسب عليه. ويقف العقل المصري حائرا بين كيفية تقييم هذه المرحلة لا سيما أننا لم نزل نعيش في كل هذه الإنجازات والمغانم وكل هذه الإخفاقات والمغارم في آن معا.
د. معتز بالله عبد الفتاح
ويجسد هذه المعضلة ما ذهب إليه الشيخ محمد الغزالي في خطبة الجمعة التالية لوفاة الزعيم الراحل وكان الشيخ علي المنبر يدعو ويقول: "اللهم ارحم الرئيس الراحل، بقدر ما رحم المسلمين. اللهم أعل من شأنه بقدر ما أعلي من شأن الإسلام والمسلمين. اللهم ارفع مكانته بقدر ما رفع من شأن الإسلام والمسلمين. اللهم أعزه بقدر ما أعز الإسلام والمسلمين..." يروي من حضر هذه الخطبة أن المصلين الذين كانوا يرددون آمين ظنوا في البداية أن الشيخ يدعو للرئيس ولكنهم مع تأمل نص الدعاء فطنوا أن للشيخ مآرب أخري من دعائه. وهو ما لا يبدو مستغربا من مثله.
وأجد نفسي أحيانا في مواجهة بعض الأساتذة والزملاء الناصريين الذين إما عاشوا الحلم الناصري وكانوا جزءا منه، أو بعضهم ممن تربوا علي التقاليد الناصرية بتأثير الأهل أو القراءة وقد ساوي كثيرون منهم بين مصر وعبد الناصر. وهما شرفان لا أدعي أيا منهما. فقد ولدت بعد أن مات الرئيس الراحل بعامين. أي أنني ولدت بعد أن انتكسنا. وحينما كبرت بدا لي الأمر كمن يشاهد الفيلم من آخره. مصر مهزومة ومأزومة والأمة العربية انفرط عقدها وخلفنا وأمامنا كتلة من المشاكل التي سواء تسبب فيها عبد الناصر أو مهد لها بسياساته واختياراته، ولا ننسي أنه هو الذي اختار السادات نائبا لرئيس الجمهورية فهي نخبة بعضها من بعض. والقضية ليست في الشخص، وإنما في نمط إدارة الدولة.
وقد قال لي صديق فكه: لقد غني عبد الحليم لعبد الناصر قائلا: "ريسنا ملاح ومعدينا" وبعد أن غرقت المركب قال: "إني أغرق ... إني أغرق." والغرق المقصود له بعدان أحدهما صامت كالسرطان الخبيث الذي أكل مجتمعنا المدني وأحزابنا السياسية وحرية الصحافة والمبادرة الفردية والتراكم الرأسمالي القائم علي اقتصاد السوق وروح الكفاءة والمناخ الليبرالي الذي كانت مصر تعرفه، رغما عن عيوبه، قبل الثورة. والبعد الآخر فج شاهدنا في نكسة عام 1967.
ويبدو لي أن هناك مدخلين في فهم عواقب الفترة الناصرية: المدخل الأول يقول إننا كنا نسير في الطريق الصحيح لكن الغرب تآمر علينا ليدمر إنجازاتنا ومن هنا كانت النكسة، فالنجاح والإنجازات التي حققتها مصر قبل النكسة هي السبب في النكسة لأننا نجحنا أكثر من اللازم لذا تآمر علينا المتآمرون. وبمد الخط علي استقامته، فإن رد الفعل المنطقي هو التمسك بالأشخاص والسياسات التي كانت قائمة قبل النكسة لأننا كنا "صح." والمدخل الآخر أننا كنا خطأ علي نحو ما كتب نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل والكرنك وكلاهما كتب قبل النكسة بعام أو عامين ليعتبرا شهادة أمينة علي انتكاسة ما قبل النكسة. وعليه فإن النكسة هي نتيجة منطقية لانتكاسة مصرية في الكثير من المجالات الأخري بما في ذلك فهمنا وقراءتنا للخريطتين الإقليمية والعربية وإدراك مصادر التهديد وموازين القوي. وكلها من المهام الأساسية لأي رئيس دولة، لا سيما إن كانت له خلفية عسكرية.
وكلما قرأت أو استمعت لمن يدافعون عن هذه الفترة، ازددت يقينا بأن إدارة الدولة الناصرية كانت تعاني خللا أعتقد أننا لم نزل نعانيه وهو خلل غياب قواعد اتخاذ القرار الرشيد. وأنا أقدم هذه القراءة للتجربة الناصرية حتي لا نظل أسري لفكرة المؤامرة التي يحاول البعض ومنهم الأستاذ العظيم والصحفي القدير محمد حسنين هيكل أن يجعلها نقطة الانطلاق من باب أن الأمة العربية وفي قلبها مصر وقعت فريسة للخطة (ألفا) ومن بعدها (أوميجا) وأن القوي الدولية تآمرت علينا متحالفة مع القوي الرجعية في المنطقة والقوي الرجعية داخل البلاد.
والمؤامرة لا شك كانت موجودة، فهي ليست نظرية وإنما كانت لعبد الناصر معلومات موثقة. لكن طبيعة شخصية عبد الناصر، وطبيعة الدولة التي صنعها، وقواعد صنع القرار التي استنها ما كانت لتجعله أو غيره يستفيد من أي معلومة عن أي مؤامرة إلا في إبلاغها للشعراء والصحفيين والإعلاميين كي يتخذوا منها مادة لتأجيج "المشاعر الثورية لدي أبناء الشعب العربي في كل مكان." فالمؤامرة حق، ولكن كيف تتفاعل معها هو واجب القيادة، كما أن مطبات الشوارع حق، لكن متي تهدئ ومتي تنحرف بالسيارة عن الطريق حتي تتجنب "مؤامرات" البيئة المحيطة بك هو جزء من مهام قائد السيارة المحترف.
فبنية الارشاد السياسي الذي كان سائدا أفضت، لا شك، إلي ما حدث في 5 يونيو 1967 كصورة فجة من نمط كان سائدا في اتخاذ القرارات المصرية والعربية حيث يضع الحاكم نفسه ومجتمعه في أزمة يكون عليه الخروج منها. فبدلا من أن ندير الأزمات فإننا ندار بالأزمات. وتكون التنمية والتقدم نوعا من النجاح في الخروج من هذه الأزمات. فمثلا وبالتطبيق علي ما حدث في 5 يونيو 1967، فإنه حتي لو كانت فكرة مساندة سوريا صحيحة فإن الإجراءات المندفعة والتصعيد المبالغ فيه من قبل مصر لم تكن علي نفس الدرجة من الصحة، ويبدو أن هذا نمط متكرر في الحقبة الناصرية حيث القرارات المندفعة التي لا تبالي بالآثار الجانبية
أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة
د. معتز بالله عبد الفتاح
ويجسد هذه المعضلة ما ذهب إليه الشيخ محمد الغزالي في خطبة الجمعة التالية لوفاة الزعيم الراحل وكان الشيخ علي المنبر يدعو ويقول: "اللهم ارحم الرئيس الراحل، بقدر ما رحم المسلمين. اللهم أعل من شأنه بقدر ما أعلي من شأن الإسلام والمسلمين. اللهم ارفع مكانته بقدر ما رفع من شأن الإسلام والمسلمين. اللهم أعزه بقدر ما أعز الإسلام والمسلمين..." يروي من حضر هذه الخطبة أن المصلين الذين كانوا يرددون آمين ظنوا في البداية أن الشيخ يدعو للرئيس ولكنهم مع تأمل نص الدعاء فطنوا أن للشيخ مآرب أخري من دعائه. وهو ما لا يبدو مستغربا من مثله.
وأجد نفسي أحيانا في مواجهة بعض الأساتذة والزملاء الناصريين الذين إما عاشوا الحلم الناصري وكانوا جزءا منه، أو بعضهم ممن تربوا علي التقاليد الناصرية بتأثير الأهل أو القراءة وقد ساوي كثيرون منهم بين مصر وعبد الناصر. وهما شرفان لا أدعي أيا منهما. فقد ولدت بعد أن مات الرئيس الراحل بعامين. أي أنني ولدت بعد أن انتكسنا. وحينما كبرت بدا لي الأمر كمن يشاهد الفيلم من آخره. مصر مهزومة ومأزومة والأمة العربية انفرط عقدها وخلفنا وأمامنا كتلة من المشاكل التي سواء تسبب فيها عبد الناصر أو مهد لها بسياساته واختياراته، ولا ننسي أنه هو الذي اختار السادات نائبا لرئيس الجمهورية فهي نخبة بعضها من بعض. والقضية ليست في الشخص، وإنما في نمط إدارة الدولة.
وقد قال لي صديق فكه: لقد غني عبد الحليم لعبد الناصر قائلا: "ريسنا ملاح ومعدينا" وبعد أن غرقت المركب قال: "إني أغرق ... إني أغرق." والغرق المقصود له بعدان أحدهما صامت كالسرطان الخبيث الذي أكل مجتمعنا المدني وأحزابنا السياسية وحرية الصحافة والمبادرة الفردية والتراكم الرأسمالي القائم علي اقتصاد السوق وروح الكفاءة والمناخ الليبرالي الذي كانت مصر تعرفه، رغما عن عيوبه، قبل الثورة. والبعد الآخر فج شاهدنا في نكسة عام 1967.
ويبدو لي أن هناك مدخلين في فهم عواقب الفترة الناصرية: المدخل الأول يقول إننا كنا نسير في الطريق الصحيح لكن الغرب تآمر علينا ليدمر إنجازاتنا ومن هنا كانت النكسة، فالنجاح والإنجازات التي حققتها مصر قبل النكسة هي السبب في النكسة لأننا نجحنا أكثر من اللازم لذا تآمر علينا المتآمرون. وبمد الخط علي استقامته، فإن رد الفعل المنطقي هو التمسك بالأشخاص والسياسات التي كانت قائمة قبل النكسة لأننا كنا "صح." والمدخل الآخر أننا كنا خطأ علي نحو ما كتب نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل والكرنك وكلاهما كتب قبل النكسة بعام أو عامين ليعتبرا شهادة أمينة علي انتكاسة ما قبل النكسة. وعليه فإن النكسة هي نتيجة منطقية لانتكاسة مصرية في الكثير من المجالات الأخري بما في ذلك فهمنا وقراءتنا للخريطتين الإقليمية والعربية وإدراك مصادر التهديد وموازين القوي. وكلها من المهام الأساسية لأي رئيس دولة، لا سيما إن كانت له خلفية عسكرية.
وكلما قرأت أو استمعت لمن يدافعون عن هذه الفترة، ازددت يقينا بأن إدارة الدولة الناصرية كانت تعاني خللا أعتقد أننا لم نزل نعانيه وهو خلل غياب قواعد اتخاذ القرار الرشيد. وأنا أقدم هذه القراءة للتجربة الناصرية حتي لا نظل أسري لفكرة المؤامرة التي يحاول البعض ومنهم الأستاذ العظيم والصحفي القدير محمد حسنين هيكل أن يجعلها نقطة الانطلاق من باب أن الأمة العربية وفي قلبها مصر وقعت فريسة للخطة (ألفا) ومن بعدها (أوميجا) وأن القوي الدولية تآمرت علينا متحالفة مع القوي الرجعية في المنطقة والقوي الرجعية داخل البلاد.
والمؤامرة لا شك كانت موجودة، فهي ليست نظرية وإنما كانت لعبد الناصر معلومات موثقة. لكن طبيعة شخصية عبد الناصر، وطبيعة الدولة التي صنعها، وقواعد صنع القرار التي استنها ما كانت لتجعله أو غيره يستفيد من أي معلومة عن أي مؤامرة إلا في إبلاغها للشعراء والصحفيين والإعلاميين كي يتخذوا منها مادة لتأجيج "المشاعر الثورية لدي أبناء الشعب العربي في كل مكان." فالمؤامرة حق، ولكن كيف تتفاعل معها هو واجب القيادة، كما أن مطبات الشوارع حق، لكن متي تهدئ ومتي تنحرف بالسيارة عن الطريق حتي تتجنب "مؤامرات" البيئة المحيطة بك هو جزء من مهام قائد السيارة المحترف.
فبنية الارشاد السياسي الذي كان سائدا أفضت، لا شك، إلي ما حدث في 5 يونيو 1967 كصورة فجة من نمط كان سائدا في اتخاذ القرارات المصرية والعربية حيث يضع الحاكم نفسه ومجتمعه في أزمة يكون عليه الخروج منها. فبدلا من أن ندير الأزمات فإننا ندار بالأزمات. وتكون التنمية والتقدم نوعا من النجاح في الخروج من هذه الأزمات. فمثلا وبالتطبيق علي ما حدث في 5 يونيو 1967، فإنه حتي لو كانت فكرة مساندة سوريا صحيحة فإن الإجراءات المندفعة والتصعيد المبالغ فيه من قبل مصر لم تكن علي نفس الدرجة من الصحة، ويبدو أن هذا نمط متكرر في الحقبة الناصرية حيث القرارات المندفعة التي لا تبالي بالآثار الجانبية
أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة
No comments:
Post a Comment