د. معتز بالله عبد الفتاح
يضع د. معتز بالله عبدالفتاح - أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة القاهرة - شروطا ستة من شأنها دفع المجتمع إلي تحقيق النهضة التي طالما نصبو إليها. وحسب الكاتب فإن شروط النهضة هذه تكمن في "حسن بناء وإدارة المؤسسات" التي تتمتع باستقلالية واضحة عن السلطة التنفيذية، فضلا عن تفعيل الدور الرقابي حول أداء هذه المؤسسات.
أنتمي لمدرسة في التحليل السياسي تعطي أهمية كبيرة
لحسن بناء وإدارة المؤسسات في تغيير الثقافة السائدة في المجتمع؛ فتصورات المواطنين عن مجتمعهم ودورهم فيه يزيد وينقص بقدر ثقة المواطنين في قدرة مؤسسات الدولة علي أن تنهض بمسئولياتها وأن تضمن لهم صوتا مسموعا وحقوقا مشروعة. وأتصور أن النخبة الإصلاحية التي ستحكم مصر في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك ستجد نفسها مطالبة ببناء واحترام القواعد الحاكمة لمؤسسات ست تتسم جميعها بالاستقلال والمهنية. وهذه المؤسسات الست هي:
1- بنك مركزي مستقل يعمل علي الاستقرار النقدي والاقتصادي ويخضع في ذات الوقت لرقابة صارمة من البرلمان لأنه المسيطر علي قرارات ترتبط بتدفق الأموال المتاحة للاستثمار والاستهلاك من خلال أداتي سعر الفائدة وسعر إعادة الخصم، فضلا عن أنه القابض علي الاحتياطي النقدي وأموال الحكومة وإصدار البنكنوت فضلا عن أن فساد القائمين عليه يجعله بابا دوارا لأموال الفساد بتحويلها للخارج. ويحسب للرئيس مبارك من ناحية وللقيادة الحالية للبنك المركزي أنها أدارت شئون مصر النقدية بكفاءة ملحوظة علي مستويات عدة.
2- قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية سواء بتدخلها المباشر عن طريق التعيين أو بمحاولة الإغواء بالمنح والمنع، لأن القضاء المشكوك في نزاهته يعني انهيار القانون وشيوع الفساد. وبدلا من تعديل كل هذه المواد من الدستور، كان من الأهم تعديل المادة 93 من الدستور الخاصة بحق مجلس الشعب في الفصل في صحة عضوية أعضائه بعد الاطلاع علي تقارير محكمة النقض بما يجعل من المجلس خصما وحكما في صحة العضوية علي نحو يتيح للأغلبية الحق في التخلص من القوي النابضة في المعارضة ومن ثم تدجين الكثير من العناصر التي لها حصانة برلمانية بحكم المنصب وفقا للدستور. فلو كان حكم القضاء وحده يكفي في التخلص من المزورين، لكان لدينا برلمان يعبر حقيقة عن إرادة النخابين. ولا يكفي، والأمر كذلك، أن يعلن رئيس الدولة احترامه لاستقلال القضاء، لأنه كم من أمور يعلنها الرئيس وتضرب بها الحكومة عرض الحائط فيما يبدو وكأنه توزيع أدوار بين الرئيس الذي يقول ويعد وجهازه التنفيذي الذي يعرف أنه ليس كل ما يعلنه الرئيس يعني التنفيذ.
3- وجود وسائل إعلام وصحافة مستقلة ومهنية لأنها الضامن لتدفق المعلومات الدقيقة والأفكار الجديدة في المجتمع. إن تاريخ المؤسسات الإعلامية والصحفية المملوكة للدولة في كل دول العالم المتخلفة يؤكد أنها الأقل قدرة علي فضح الاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان والأكثر استعدادا للمبالغة في الإنجاز والاستبسال في الدفاع عن تحالف السلطة والثروة والإكراه المفضي إلي الفساد. ورغما عن أن مصر شهدت في عهد الرئيس مبارك مساحة واسعة نسبيا مقارنة بالسابقين عليه، لكن يبدو أنها تتراجع الآن بحكم وصولنا إلي خريف الحكم وتصاعد المطالب الفئوية الاقتصادية والسياسية لشرائح مختلفة من المواطنين.
4- إنشاء لجنة انتخابية مستقلة ومحصنة ونافذة تشرف علي العملية الانتخابية من بدايتها وحتي نهايتها. ولكل صفة من الصفات الثلاث معني يستحق التأمل، فهي مستقلة بحكم القانون عن أي حزب أو جهة أعلي منها، وهي محصنة من التدخلات السياسية لمن هم في موقع السلطة وهي نافذة أي قادرة علي اتخاذ قرارات تصل إلي حد إلغاء الانتخابات إن كان فيها شبهة تزوير أو بيع أو شراء. ويكون عادة القضاة المنتخبون هم الأفضل للقيام بهذه المهام. وهو تحد يتطلب رغبة أكيدة في بناء دولة يكون فيها القانون فوق أشخاص الدولة بعيدا عن الشللية والمحسوبية ومحاباة من بيدهم المال والسلطان.
5- جهاز خدمة إداري مدني يقوم بدوره في تنفيذ السياسة العامة للدولة علي أساس من الكفاية والكفاءة. والمقصود بالكفاية أن يكون موظفو الدولة في وضع اقتصادي يسمح لهم باحترام القوانين والسهر علي تنفيذها دون الحاجة للرشاوي والإكراميات مع تغليظ العقوبة لأقصي درجة ممكنة بحيث تعود للموظف العام مكانته ودوره الأصيل في خدمة المجتمع وتنفيذ السياسة العامة للدولة. أما الكفاءة فهي مسألة تدريب وتأهيل مع استعداد لتبني نموذج ساعات العمل الممتدة ليلا وفي الإجازات بما يساعد علي الاستفادة من الطاقة العاطلة من الموظفين. وهو ما لايبدو أن الدولة المصرية في تاريخنا هذا قد أنجزته وبما يضع عبئا ضخما علي نخبة المستقبل لمواجهته.
6- الاستقلال المهني لأجهزة القمع المشروع (القوات المسلحة والشرطة): فلا ينبغي أن يكون في الدولة إلا جيش واحد وجهاز شرطة واحد ولا مجال لأي قوي مسلحة أخري داخل حدود الدولة. ويحسب للرئيس مبارك أنه حقق درجة عالية من مهنية القوات المسلحة المصرية بحيث تبتعد عن أي دور سياسي مباشر كمؤسسة، بيد أن هذا الأمر لا ينطبق علي الإطلاق علي الشرطة المصرية التي تمارس دورا سياسيا متصاعدا في تأمين استمرار الحزب الوطني في الحكم سواء بمنع الناخبين من التصويت في الانتخابات أو المرشحين المعارضين من استكمال عمليات الترشيح أو اعتقال المعارضين الذين يخرجون عن نطاق "الكلام" إلي نطاق الفعل بما جعل البعض يتحدث عن عودة "الدولة البوليسية" التي كنا نظن أننا ودعناها.
إن دولا مثل غانا والسنغال وبوليفيا، ولن أقول ماليزيا أو كوريا الجنوبية أو البرازيل، قد نجحت في بناء هذه المؤسسات. وسيأتي يوم تحقق فيه مصر استقلالها الثاني، بعد أن استقلت من الاستعمار الخارجي، بأن تحقق استقلال هذه المؤسسات ومهنيتها كخطوات جادة في بناء دولة عصرية. وسيأتي هذا اليوم أسرع، حين يضطلع كل منا بواجبه بحرص أكيد علي مصلحة هذا الوطن. وأكرر مقولة أفلاطون: "إن من يعزف عن المشاركة في الحياة السياسية، فسيعاقب بأن يحكم بمن هم دونه، ومن لا يراعون مصالحه." وإلي غد أفضل يا أهل مصر
No comments:
Post a Comment