يتهم الأكاديميون والمثقفون عامة بأنهم يميلون إلي تعقيد الكلمات والمصلحات لإضفاء شيء من الغموض علي ما يكتبون وبالتالي يدعون لأنفسهم مكانة أعلي لانهم يقولون »كلام كبير« والحقيقة أنه اتهام فيه الكثير من الصدق بالذات عند اولئك الذين يرون ان الكلمات الصعبة والغامضة تجعل الآخرين يعزفون عن تحديهم ومناقشتهم في أفكارهم وهو إجمالا مؤشر ضعف وليس مؤشر ثقة ورغبة في التواصل مع الآخرين، فأعقد الكلمات والمصطلحات والافكار يمكن، بل يجب ان تبسط بما يجعلها قابلة للفهم والاستيعاب من أكبر عدد ممكن من الناس.
ودعوني أشير الي حقيقة المقالات التي كتبها ثلاثة من كبار الآباء المؤسسين للولايات المتحدة تحت عنوان »الاوراق الفيدرالية« في اواخر القرن التاسع عشر حتي يضمنوا من ناحية تأييدا للتصويت علي الدستور الامريكي ويقدموا الخلفية الثقافية والفكرية للدستور الامريكي. والمثير للتأمل ان هذه المقالات نشرت في الصحف وقرأها الانسان العادي في مستعمرات امريكا الشمالية واثرت فيهم وفي النهاية صوتوا لصالح الدستور الامريكي، لكنها تميزت بعمق شديد وبتحديد واضح للمصالح المباشرة التي ستعود علي الانسان الامريكي حين يصوت لصالح الدستور في صيغته الفيدرالية. ولا أتصور ان جموع المصريين في عام 2008 أقل قدرة علي استيعاب حقوقهم والتزاماتهم مما كان عليه ساكنو المستعمرات البريطانية في امريكا الشمالية عام 1787 لكن المعضلة ان قيادات هذه المستعمرات كانت راغبة في بناء دولة حديثة تحكم المواطنين بصناعة القوانين، لكنها اول من يلتزم بها وفي ذات الوقت تضع نفسها تحت تصرف المواطنين حين يختارون من يحكمهم اما بالاستمرار وإما الرحيل. وهو قطعا ما ليس عليه حال القيادات الحاكمة في مصر في مطلع القرن الواحد والعشرين، وهو جوهر الفرق بين النخب الاصلاحية والنخب الاقطاعية، ومع ذلك يظل من واجب كل صاحب رأي ان يبصر القادرين والراغبين من ابناء الوطن علي القيم الاساسية التي ينبغي ان تشكل اساس الحكم الصالح.
ولنأخذ مثالا آخر من واقعنا المصري والعربي بشأن مفهوم شديد التعقيد، لكنه ينبغي ان يكون شديد التحديد اذا كنا جادين في بناء منظومة فكرية وثقافية قادرة علي تغيير واقعنا لما هو افضل. والمفهوم موضع النقاش هو مفهوم »العدل« و»العدالة«.
فالمساواة اول مكونات العدالة، فلا عدل الا ان يتساوي الناس ابتداء كأسنان المشط علي اساس حقوقهم القانونية والسياسية بغض النظر عن خصائصهم التي ولدوا بها كالنوع ذكر او انثي او الديانة او العائلة او القبيلة التي ينتمون اليها، والمساواة هنا تعني مساواة في الحقوق والاساسية والحريات العامة ومقومات الحياة وكذلك في الالتزام بالواجبات كما يفرضها الدستور والقانون، فلا مجاملة لحزب علي حساب آخر، ولا لمواطن علي حساب مواطن آخر.
بيد ان العدالة القائمة علي المساواة وحدها هي عدالة عمياء يمكن ان تعني عين الظلم اذا لم تأخذ في اعتبارها مكونين آخرين وهما:
التمايز بين الافراد وفقا للاحتياجات، فالفقير حتي يستغني والضعيف حتي يقوي والجاهل حتي يتعلم والمريض حتي يتعافي يستحقون معاملة خاصة، لما لحق بهم من عارض يجعلهم غير قادرين علي النهوض بأعباء أنفسهم، فمن المنطقي ان يطبق مبدأ المساواة علي الجميع في طابور الوصول للطبيب، لكن مرضي الحالات الحرجة لهم اولوية علي غيرهم لأن هناك أمراضا تهدد حياة الناس، والمساواة في هذه الحالة تعني الظلم بعينه.
أما المكون الآخر فيقتضي التمايز بين الافراد علي اساس المواهب والقدرات، فالناس بحق درجات ومعادن منهم المجتهد وصاحب البصيرة ومنهم اهل الدعة والسكون »وهل يستويان مثلاً« ولو اردنا بتبسيط المخل ان نفهم سبب انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي فيمكن ان نزعم انها ارتبطت بمساواة معيبة سعت بأن تساوي بين الجميع بغض النظر عن الكفاءة والاجتهاد، فأصبح اجتهاد المجتهد غير ذي جدوي، فالرغبة في التمييز والتقدير من الآخرين ماديا ومعنويا تقف علي النقيض من المساواة بين غير المتساوين.
وعليه فأي عدالة لابد ان تعني اخذ تفاوت الناس في احتياجاتهم وفي قدراتهم وإلا أدت الي الظلم دون ان نقصد.
وحتي توضع المعاني الثلاثة السابقة موضع التنفيذ، لابد من ضامنين:
أولاً: ان يترجم القانون كل ما سبق علي نحو واضح وصريح في قواعده العامة والمجردة بحيث تكون مساحة إساءة تفسير مبادئ العدالة الثلاثة في اضيق هامش ممكن.
وثانيا: ان يتاح للجميع الحق في التقاضي، أي اللجوء للقضاء المستقل والنزيه والسريع اذا ما اعتقدوا ان ايا مما سبق من مكونات قد أسيء استخدامه علي نحو يقتضي رفع الظلم الناتج، فتطبيق القانون يمكن ألا يكون علي اساس من النزاهة او حسن استيعاب القانون بما يجعل القضاء النزيه والمستقل عن أهواء المتقاضين ضرورة حتمية.
http://www.alwafd.org/v4/News/NewsDetail.php?id=1552&type=openion
No comments:
Post a Comment