إلى الهند حملتني رحلة لأقضي ثلاثة أيام في مومباي، بل على وجه الدقة ضاحية من الضواحي الفقيرة في تلك المدينة التي تنقسم بين الفقر المدقع.. والغنى الفاحش.
تحتاج الهند دراسة طويلة، هنا فقط أسجل ملاحظات عابرة..ومشاهدات عاجلة.. كي لا أنسى.
كانت الندوة عن الفقر، وكانت الجهة الداعية "مركز دراسات العولمة" في كلية الاقتصاد بجامعة لندن، والطرف الهندي الشريك في التنظيم والاستضافة هو "معهد تاتا" وهو معهد ضخم تكاد تبلغ مساحته مساحة مقر الكليات الاجتماعية المركزية لجامعة القاهرة، تبرعت بأرضه وميزانيته شركة تاتا المنتجة للسيارات، وأشياء أخرى.
وجها لوجه
لم أزر الهند من قبل لكن شأن غيري من العرب شاهدت بعض الأفلام الهندية في صباي، وأكلت الطعام الهندي لمدة ستة أشهر حين سكنت في بيت للطالبات المسلمات حين كنت أدرس في لندن، وكانت غالبية الطالبات من الجيل الثاني من أصول هندية وبنغالية وباكستانية فكنت آكل معهن ما يتم طهيه بدون اعتراض (وبجواري علبة المناديل لأجفف دموعي وأمسح أنفي لوطأة البهارات والشطة)، وسمعت موسيقى الهند وتابعت أخبار السياسة وطفرة الاقتصاد.
نزلت من الطائرة التي قطعت المسافة في ساعات الليل لأقف في طابور طويل ثم ألتقط حقيبتي وأخرج لأجد سائق الحافلة في انتظاري. كان أول ما لفت نظري رطوبة الجو وزحام الناس أمام المطار والساعة لم تتجاوز السادسة صباحا.
اقتربت مني سيدة عجوز تتحدث بلغة عربية ركيكة تطلب أن أعطيها بعض الريالات أو الدينارات أو الدراهم، فلم أفتح فمي وصرفها السائق في لطف، فكيف أشرح لها أنني لست من بلاد البترول ولا صلة لي بصحراوات الخليج.. بل أنا من فقراء مصر ونبتة من طين المحروسة.. بكل فخر.
في الطريق للفندق والذي قطعة السائق في نصف ساعة صدمتني مشاهد الفقر في الشارع، الناس تنام على الأرصفة أو في عشش من الصفيح أو حتى فيما يشبه الخيمة الصغيرة، أربعة أعواد من الخشب وهلاهيل من القماش القديم.
سيارات التاكسي في معظمها من طراز الفيات القديم كالذي كان يجوب شوارع القاهرة في الستينيات والسبعينيات، وعدد الدراجات البخارية المغطاة التي نسميها في مصر "التوك توك" –يطلق عليها هناك ريكشا أو أوتو- يصعب حصره، تتراص على جوانب الطرقات.
لافتات الإعلانات فوق المباني القديمة المتهالكة والتي تقف بغرور لتعلو فوق رءوس البشر البسطاء الساكنين الصفيح تحمل صورًا لامعة حديثة كالتي تراها في شوارع القاهرة أو دبي، تروج لشقق كبيرة واسعة أو تعد بتحقيق الأحلام لو اقتنيت كارت فيزا، أو تعلن عن سلعة لن يستطيع أحد ممن تصافح أعينهم الصور شراءها.
هذه الإعلانات للأغنياء الذين يجبرهم مسار الطريق من وإلى المطار على المرور بتلك الشوارع.. فقط.
وصلت لفندق ثلاثة نجوم ولم أستغرب، فالمؤتمر عن الفقر ولا معنى للنزول في فندق فخم، ناهيك عن أن الفنادق الفخمة في وسط المدينة تبعد ساعة بالسيارة، أو بجوار المطار الذي يبعد نصف الساعة، والفندق بجوار المعهد، وهذا أفضل لسهولة الحركة.
لا أستطيع أبدا النوم في الطائرة، فحاولت أن ألتقط ساعتين من الراحة قبل بدء يوم عمل. نظرت حولي فوجدت جهاز التكييف معلقا على الحائط.. وفي السقف مروحة.
لا أحب أجهزة التكييف، فاستخدمت المروحة، واجتهدت في النوم، فلم أفلح.
في التاسعة كانت السيارة في الانتظار.
دخلت القاعة لأنضم لفريق جامعة لندن الذي وجه لي الدعوة، وصافحت عيني الوجوه السمراء الهندية، رجالا في ملابس بسيطة متواضعة ونساء معظمهن يرتدين الساري الهندي.
تواضع العلماء
كانت الندوة عن الفقر والعولمة، تحدثنا عن الفقر لمدة يومين، وتحدث الهنود عن العولمة، وكيف تؤدي للإفقار المنظم.
بعيدًا عن الكلام الأكاديمي والنقاشات الفكرية والإحصاءات والمؤشرات، أهم ما شاهدت هو تواضع الأساتذة الهنود، فالملابس بسيطة بشكل مذهل، والاهتمام بالأفكار أكثر بكثير من الاهتمام بالأناقة، وعمق المعرفة وقوة الحجة لا يوازيها الهوس بالموضة، أو الولع بالمظهر الذي نجده في بعض المجتمعات العربية، حتى إن وقوف الرجل أمام مرآة في مكان عام ليصلح من شكل ملبسه أو غطاء رأسه أضحى مشهدا يثير الرثاء.
يجلس أحدهم في تواضع يرتدي الزي الهندي البسيط فلا تظن أنه أستاذ بالجامعة وما أن يفتح فمه حتى تجد نفسك أمام علامة (بتشديد اللام) فلا تملك إلا أن تحترمه وتحترم مكانته واحترامه هو لثقافة المكان وكرامة العلم.
عبر أيام المؤتمر والتجوال المحدود في مومباي بالسيارة لفت نظري قوة الثقافة، لا عجب أن يكون أفضل من كتب في أثر الثقافة وقوتها وعودتها في مواجهة الدولة القومية التي سعت لمحوها في بوتقة المواطنة –تلك الأسطورة- أفضلهم من الهنود، أسماء مثل هومي بهاباه- أبادوراي- بيكو باريكه- وأخيرا أمارتيا سين.
الثقافة الهندية
اللغة، والموسيقى، والطعام، والزي.. وأساطير الديانة، وحضور المعابد والأضرحة، كلها مقومات قوة للثقافة الهندية التي تتميز وتنفرد بخصائص ليس لها شبيه، حتى إنني تصورت لو أن شبه القارة الهندية انفصلت عن آسيا وطفت فوق الماء واستقرت في الأطلسي فلن يكون هناك فرق؛ فهي ليست آسيوية بالمعنى الدقيق، بل هي فقط: الهند، ليس لها نظير.
الديمقراطية الهندية مضرب لأمثال حقيقية فيما يخص نزاهة الانتخابات، لكن بالتأكيد خيارات الناخب محدودة، فالدعاية الانتخابية -وبوضوح- بها صورة المرشح وبجواره على الجانب الآخر من اللافتة صورة أبيه أو جده، أي أن السياسة تديرها أسر، حتى إن أحدهم قال إن الهند تدير سياستها 36 أسرة كبيرة، والأسر المهيمنة في كل منطقة.
الفقر مذهل، والفقراء منسيون، في بعض التحليلات قرأت أن الهند قررت أن تكون قوة دولية بـ 300 مليون من سكانها الذين تجاوزوا المليار، وأن البقية لها الله.. لن يشغلوا بالهم بهم. أخذت النخبة قارب النجاة الرأسمالي للعولمة وتركت السفينة تغرق في الجهل والفقر.
26% من الدخل القومي للتسليح (النووي)، و16% للصحة والتعليم مجتمعين! واستثمارات الغرب تقوي الهند في آسيا، في مواجهة كل جيرانها.
ينفق بيل جيتس الملايين لتطوير أمصال لعلاج الأمراض لا تحتاج تبريدًا ليسهل نقلها، وينفق على تعليم آلاف الأطفال. الهند هندوسية فلا مشكلة مع دينها تاريخيا، وهي أسهل في الاختراق وبناء التحالف مع الغرب من الصين - ذلك المارد، وإسرائيل طرف أساسي.
مومباي أكثر المدن نموا في الدخل، لكن الواضح أن الدخل هنا هو المتوسط الحسابي بين دولار في اليوم للفقير ومائة ألف دولار للغني.
لم أصدق علماء الاقتصاد يوما، وحصلت على امتياز في مادة الاقتصاد في الجامعة ثم تخصصت سياسة، كلهم يكذبون، لكن كذب الساسة مفضوح للكافة، أم كذب الاقتصاديين فمنمق ومتأنق.
سأحتاج لزيارات أطول كي أفهم تلك الثقافة، وضع المسلمين الذين لم يذهبوا للهند والذين يتجاوز عدهم 100 مليون نسمة ليس على أفضل ما يرام، أخبرني أحد رموزهم الثقافية أن أوقاف المسلمين يضرب فيها الفساد، وجهودهم مشتتة، ومنهم ضحايا العنف الطائفي خاصة في الكوجرات وضحايا الفقر في كل مكان.
عدت من التجوال وأنا أشعر بأن العالم واسع، ما نجهله أكثر مما نعلمه.
وكما في كل رحلة، عدت بدروس وأفكار.
ويعلمني السفر دائما الصمت.. والتأمل.. والتواضع.
No comments:
Post a Comment