Sunday, May 25, 2008

العلم غريب في مجتمعاتنا

يسوق د. معتز بالله عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية في هذا المقال مجموعة من الأمثلة التي تؤكد أهمية ارتباط ثلاثية الدين والعلم والفلسفة معا، ويري أن هذا الارتباط هو الكفيل بتحقيق النهضة

.معتز بالله عبدالفتاح

للشيخ محمد الغزالي ملاحظة بارعة عن قول الحق سبحانه "اقرأ" كأول كلمة استقبلتها أذن الرسول الكريم (ص) من آخر رسالات السماء. وملاحظة الشيخ هو أن أمر "اقرأ" ورد غير متعد لمفعول. فلم يقل الحق اقرأ ماذا وإنما ركز علي المنهج بأن نقرأ باسم ربنا الذي خلق مع التذكير بكيف أن الله خلق الإنسان من علق وكيف أنه علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. واتخذ الشيخ من هذه الآيات دليلا علي جمع الأمر القرآني بين الدين والعلم والفلسفة: اقرأ في كتاب الله القرآن أي تدين وآمن واقرأ في كتاب الله الكون أي تعلم وتفكر. وهو نفس ما ذهب إليه الزكي النجيب محمود حينما صدر كتابه "رؤية إسلامية" بفصل عنوانه "أنا المسجد وأنا الساجد" أي أننا نحن المسلمين جعلت لنا الأرض مسجدا، فالمعمل مسجد والعالم ساجد فيه وهو يعمل والمدرسة مسجد والمدرس ساجد فيها وهو يدرس، والمشفي مسجد والطبيب ساجد فيه وهو يعالج مرضاه. فالمسلم مسجد وساجد في آن معا. هذا ما ينبغي أن يكون وإن شئت فقل هذه هي القيم التي نمنا في نورها، واستيقظ الآخرون في ظلام غيابها، فتراجعنا وتقدموا.
دعوني أقول إن مجتمعاتنا تمر بمشاكل هيكلية. كالمبني الذي تحتاج أساساته إلي إعادة تأهيل. القضية ليست في دهان حجرة هنا أو تغيير عتبة سلم هناك. إن قوة خلطة المسلح التي نبني بها الكباري والأبنية الشاهقة لا تأتي من الرمل منفردا أو من الأسمنت منفردا أو من الحديد منفردا بل من خلطة محكمة بموازين معينة وعناية خاصة أفردت لها العلوم وأتقنها البشر بالعلم والتجربة حتي استقرت خطوات إجرائية منتظمة عند أهل الاختصاص من مهندسين إنشائيين ومدنيين بما يجعل مساحة الاجتهاد الشخصي فيها قليل للغاية. والأمر ليس ببعيد عن كيفية حل الصراعات الاجتماعية والسياسية (أي التعايش) في المجتمعات المعاصرة فهي مسائل انتهت علوم اجتماعية كثيرة من مناقشتها والوقوف علي عواملها وكيفية تحقيقها. هل قرأتم هذه العبارة الأخيرة؟ لقد وردت فيها كلمة "علوم" ولكن من في الدولة أو المجتمع يعبأ بالعلم والعلماء؟
إننا نعيش حالة من الخواء الفكري جعل العلم شهادة لا قيمة لها سواء باعتمادنا علي الدروس الخصوصية التي تحول لك كل ما قد يستدعي التفكير والإبداع والتأمل إلي مجموعة عبارات تحفظها كي تكتبها في موضوع التعبير الذي هو في الأصل اختبار للطالب في حسن استغلال ما تعلمه نتيجة القراءة والاطلاع علي المقررات المختلفة، لكن المدرس الشاطر (بمعني النصاب) يحول كل هذا إلي عدة عبارات يحفظها الطالب كي يكتبها في بداية موضوع التعبير وفي خاتمته، فيتوقف إبداع الطالب وحسن استغلاله لما تعلم، وكذا في العلوم الأخري. احفظ المعادلة واكتبها ثم اكتب تحتها أي كلام في الامتحان. هل هذا علم؟ لا هذه فهلوة، وكذا الدعوة للتعايش بانتقاء التجارب الجميلة من الماضي ونسيان أصل المشاكل.
ثم أين الثقافة العامة في أمور الحياة من قصة ورواية وشعر بل حتي مشاهدة الأفلام الجادة مثل قنديل أم هاشم، التي فوجئت بأن البعض قد درسها في الجامعة لكنهم ما فهموا منها ما ذكرته في إحدي المقالات عن صراع العلم والخرافة فيها، وغيرها من الأفلام مثل الزوجة الثانية وما يصوره من إساءة استغلال الدين من قبل البعض، وفيلم ابن الحداد ليوسف وهبي الذي اعتبره درسا في قيمة العمل واحترام الذات، وغيرها من الأفلام الجادة التي اعتبرها واحدة من أهم وسائل تكوين أي إنسان سوي في مجتمعنا. وإذا كنت من هواة الأفلام الأجنبية شاهد فيلم "عقل جميل" الذي يحكي عن جون ناش واحد من أعظم علماء الاقتصاد وعن نضاله ضد مرضه النفسي حتي انتصر عليه وصولا إلي جائزة نوبل.
لقد تراجع كل هذا وأصبحنا أمام غلبة للتدين الشكلي الذي يحرص بعض الدعاة والعلماء علي أن ينبهونا ألا نقف عند حدود الشكل فيه، لكنهم حقيقة يغذون هذه النزعة الشكلية دون أن يدروا. أتدرون لماذا؟ لأن خلطة المسلح التي يصنعونها فيها الكثير من الرمل والقليل من الحديد والأسمنت، فيهوي البناء. فيها الكثير من الغيبيات الدينية والقليل من العلم والفلسفة.
الداعية لا بد أن يكون داعية دين (عقيدة وأخلاق بالأساس) وعلم (وهو ما لن يحصله إلا إذا قرأ في العلم بقدر ما يقرأ في الدين) وفلسفة (وهو ما لن يحصله إلا إذا اطلع علي إسهامات المفكرين والفلاسفة من الشعوب والمجتمعات الأخري). فالدين بلا فلسفة سيكون شكليات تهتم بتوافه القضايا وتنعزل عن قضايا المجتمع الحقيقية، والدين بلا علم سيكون غيبيات واتكالية علي سنن الله الخارقة التي ما وعد الله بها أحدا إلا بعد أن يكد ويكدح عملا بسنن الله الجارية. والفلسفة بدون دين ستكون شطحات وخروجاً عن المألوف والمقبول، والفلسفة بدون علم ستكون مثاليات نسمع عنها ولا نعرف كيف نصل إليها، والعلم بدون فلسفة سيكون أداة للدمار لأنه سيكون منزوع الأخلاق، والعلم بدون دين سيقف متحديا لقيم المجتمعات المتدينة فيرفضه العوام ولا يفيدون منه. إنها خلطة متوازنة متكاملة يلعب فيها كل مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية دوره. كخلطة الخرسانة التي يشد بعضها بعضا، فلا مفاضلة بينها وإنما التكامل. لكن التحدي الذي نواجهه أننا أكثر تقبلا لمظاهر الدين دون عمقه وطاقته الهائلة

http://www.elbadeel.net/index.php?option=com_content&task=view&id=20234&Itemid=41

No comments: